من أشهر ما نُقل عن بشار بن برد في الهجاء، وهو سيد هذا المضمار، قصيدته التي هجا بها العباس بن محمد بن علي والتي مطلعها:
ظل اليَسار على العباس ممدودُ … وقلبه أبدًا بالبخل معقودُ
ومن أبرز أبيات هذه القصيدة والبيت الذي غدا حكمة تتوارثها الأجيال قول بشار:
وللبخيل على أمواله عِللٌ … زرق العيون عليها أوجهٌ سودُ
وفي التراث العربي يمثل كلا هذين اللونين النموذح الأمثل لمن يتسم بالسوء والشر والخطأ، ويقع عليه السخط والبغض والغضب، والقرآن الكريم يؤكد هذا:
فعن اللون الأسود يقول الله تعالى في سورة آل عمران: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ".
ويقول جل شأنه في سورة الزمر: "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ".
ويقول عز من قائل في سورة يونس: "وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".
وعن اللون الأزرق يقول رب العالمين في سورة طه: "يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا".
هكذا يرى التراث العربي هذين اللونين كل على حدة؛ فكيف إذا اجتمعا؟ النتيجة يومئذ أن هذه أقبح صورة يمكن أن يُصوَّر بها إنسان سواء في الشكل أو في المضمون، وهذا ما جعل بيت بشار حكمة يستخدمها كل من يريد أن يصف شخصًا سيء الطباع والخُلُق والأفعال أو يوصِّف معنى "الشرير".
هذا ما عليه تراثنا، وهو ما تكونت منه ثقافتنا جيلاً بعد جيل؛ لكن هل حالنا اليوم ينطبق عليه هذا التراث؟ لنطوَّف سريعًا بمجموعة من الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية:
* الأمم المتحدة تبدأ مؤتمر "جنيف 3" حول الأزمة السورية وسط تفاهم أمريكي روسي، وتنهيه بلا نتائج تفيد الشعب السوري.
* أمريكا ضغطت على المعارضة السورية لحضور محادثات جنيف 3 "دون شروط".
* "جنيف 3" ليس لوقف القتال أو لغوث المحتاجين والمحاصرين واللاجئين بل لحشد الجهود في مواجهة "داعش".
* روسيا تستعد لمؤتمر "جنيف 3" بقصف مواقع المعارضة، وتصعد من قصفها بعد انتهائه.
* القصف الروسي على سوريا يقتل أكثر من 500 مدني منذ أول يناير، ويقتل أكثر من 3000 مدني منذ بدأ في 30 سبتمبر 2015.
* أكثر من 5.5 مليون لاجئ سوري وسوريا على شفا كارثة منفلتة.
* نزوح جماعي بعشرات الآلاف من أهل مدينة حلب السورية بسبب القصف الروسي وسط غياب تام لهيئات الإغاثة.
* القصف الروسي يوقف أعمال الإغاثة شمالي سوريا مما يضر بعشرات الآلاف من المحتاجين للغذاء والمأوى.
* "روسيا تقتل أطفالنا" حملة تستنكر القصف الروسي على المدارس السورية.
* تركيا ترفض فتح حدودها لعشرات الآلاف من النازحين السوريين بسبب تجاوز الأرقام المتوقعة وتطالب بدعم دولي.
* هولندا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي تعتزم السير على خطى السويد وفنلندا عبر طرد آلاف اللاجئين.
* سويسرا والدانمارك تجردان اللاجئين السوريين من مدخراتهم وتبقي معهم مبالغ صغيرة.
* بريطانيا تجبر اللاجئين على ارتداء أساور ملونة لتمييزهم.
* ألمانيا تطبق قوانين جديدة على اللاجئين منها وقف لم الشمل للأسر لمدة عامين، والإجبار على المكوث في مراكز إيواء اللاجئين وعدم مغادرتها.
* الإعلام الروسي يحرض ضد اللاجئين السوريين في أوروبا.
* التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الاميركية يعترف بقتل مدنيين في سوريا والعراق.
* طيران التحالف الدولي يقصف مسجد الشهداء في تلعفر وكنيسة الطاهرة في الموصل بالعراق.
هذا غيضٌ من فيضِ أخبارٍ تناقلتها وسائل الإعلام خلال أقل من أسبوع حول فعل أصحاب "زرق العيون عليها أوجه بيض"، واكتفيت كذلك بذكر ما يرتبط منها بدولتَيْ سوريا والعراق، ولو وسعنا الاختيارات سواء زمنيًّا أو مكانيًّا فإننا سنرفق أحداثًا كثيرة ووقائع عديدة للدور الغربي في العالم، يكفي أن أذكِّر بالعراق وأفغانستان وقبلهما فيتنام واليابان وسايكس بيكو وما سبقها والهنود الحمر وأمريكا اللاتينية والهند وأفريقيا والأندلس… إلخ من سلسلة طويلة تحدث فيها كثيرون عن فعل "زرق العيون عليها أوجه بيض"، وهو الأمر الذي حدا بروجيه غارودي إلى أن يقول في كتابه "حوار الحضارات": "أنا أطلق كلمة (الشر الأبيض) على هذا الجانب من الدور المشؤوم الذي نهض به الإنسان الأبيض في التاريخ"، وأن يقول كذلك: "إن كلمة (الغرب) كلمة رهيبة… إنني لا أحب لفظة (الغرب) وقد حمَّلوها عددًا كبيرًا من التعريفات التي خدمت قضايا مشبوهة في تقسيم العالم".
تاريخ طويل إذن يتحدث بخلاف تراثنا عن "زرق العيون عليها أوجه سودُ"، إنه يتحدث عن "زرق العيون عليها أوجه بيضُ"، وهو حديث ما فتئ يقع كل يوم بلا توقف.
فهل يا ترى غدونا نحتاج إلى إعادة النظر حول نموذج "الشرير" في تراثنا، وأن نعيد ترتيب عقولنا بناء على واقعنا لا على تقاليدنا؛ فيصبح الوجه الأبيض والعيون الزرق هو الرمز السلبي والسيء؟
"زرق العيون عليها أوجه بيضُ" هو حديثنا الدامي اليومي الذي كسر العديد من المفاهيم والتقاليد التي نشأنا عليها، وهو الوجه الذي ما إن نراه حتى نتوجس منه ريبة وشكًّا، مع اعتذاري الشديد للأفراد من البلاد كلها ممن يتسمون بزرق العيون وبيض الوجوه فلست أعنيهم؛ إنما أعني هنا الكيانات لا الأفراد، وأقصد تحديدًا الكيانات الغربية التي عاثت في العالم فسادًا على مدار سنين طوال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.