عن الكتابات التي كتبتها.. عن الحماقات التي ارتكبتها
عن كل ما أحدثته.. في جسمكِ النقي مِن دمار
وكل ما أثرته حولكِ مِن غبار
"نزار قباني"
يمكن للاعتذار أن لا يكون مهمًّا إن كنا ملائكة، ولأننا -لسوء الحظ- لسنا كذلك، فإن الاعتذار هو أحد أنجح الطرق -إن لم يكن أنجحها- للتصرف بشكل إنساني مع أخطائنا في حقوق الآخرين، إذ يمكن للاعتذار -الصادق- استئناف العلاقات الإنسانية بشكل سوي، دون خصم تلك الأخطاء من رصيد المودة المتبادل، والذي سيتآكل تدريجيًّا مع خطأ تلو الآخر حتى تنقطع العلاقة بشكل كلي.
والاعتذار لغة مِن اعتذر يعتذر اعتذارًا، فهو مُعتذِر، والمفعول مُعتذَرٌ إليه، اعْتذَرَ فلانٌ : صار ذا عُذْرٍ، واعْتذَرَ إِليه أي طَلَبَ قبول مَعْذِرَتِه وتأسَّف له، وطلب منه الصَّفحَ والسَّماحَ ورَفْعَ اللَّوم.
ما الذي يعنيه أن تُخصم الأخطاء من رصيد المودة؟ ببساطة: تسيء لأحدهم ولا تعتذر، وتكرر الإساءة ولا تعتذر، ورغم ذلك تجده -ربما بعد فترة- يتعامل معك كأن شيئًا لم يكن، الذي حدث ببساطة هو أنه انتقص من رصيد مودتك لديه بما يقابل الاعتذار -ربما وهو لا يدري حتى- ومع تكرار الأمر، تجد أنه مع إساءة ما، لم يعد لديك في قلبه قدر، فيتعامل معك بما لا تتوقع، كأنك شخص غريب، ليس بينك وبينه سابق إحسان ولا حتى معرفة، ببساطة: "لقد نفد رصيدكم".
صداقات كثيرة وزيجات أكثر، انتهت لسبب ربما بدا تافهًا، ولكن المتحقق البصير يدرك أن القشة التي قصمت ظهر البعير لم تكن القشة الوحيدة، عشرات وربما مئات الأسباب التافهة، التي لا يقابلها اعتذار مناسب، ثم فجأة: نهاية تدهش الطرفين، شخص اعتاد أن تمر أخطاؤه بلا ثمن، وفوجئ برد فعل من صاحبه الذي اعتاد تجاوز الأمر، وفوجئ أنه لم يعد يحتمل المزيد.
المشكلة لا تكمن في تلك الفئة من البشر التي لا تعتذر جهلًا أو حتى أنفة وتكبر، فتلك فئة محسومٌ أمرها، وتصنيفها سهل، والابتعاد عنها أفضل، بل المشكلة -في نظري- في تلك الفئة التي تعتذر اعتذارًا سخيفًا هو حري بأن يُعتذر عنه، إذ إن للاعتذار آدابٌ إن لم تتوافر فيه صار الاعتذار خطيئة يجب الاعتذار عنها.
الاعتذار كالتوبة، إن لم يكن صادقًا يشوبه الندم -وتسع أعشار الاعتذار في صدقه- فلا قيمة له للمُعتذَر إليه ولا للمُعتذِر، وإن لم يكن صادقًا، فهو -وإن نجح في خداع الطرف الآخر- يصنع هُدنة هشة ضعيفة لا تدوم طويلًا، والذي يعتذر مجامِلًا لا يجيد تكرار الأمر مع كل خطأ.
وأردأ أنواع الاعتذار هو ذلك الذي لا يتناسب -في صبره- مع قيمة الخطأ المُعتذَر عنه، فتجد الشخص يخطئ في حق أحدهم خطأً جسيمًا، ثم يعتذر بصلف وببرود ويعتبر الأمر منتهيًا بقوله آسف، رغم أن صوته يقول إنه فعلًا لا يعنيها، وإن كانت أمك قد دعت عليك أن لا يميتك الله حتى يريك وجه الماكرين، فقد تجده يستغل ذلك بمعادلة سخيفة: "لقد أخطأت، واعتذرت، وأنت لم تتقبل اعتذاري، واعتبرته كأن لم يكن، فأنت المُلام ها هنا"، ثم يبدأ في التصرف كصاحب الحق الذي ينتظر اعتذارًا.
يلي ذلك في الرداءة ذلك الذي يعتذر بقوله (متزعلش)، كيف لا (يزعل) وقد (زعّلته) أنت بالفعل، قل له "أنا آسف".
الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه يعني القوة، يعني المبالاة، يعني أنك تهتم، يعني أنك إنسان، وليس معنى ذلك أن تكون مبتذلًا كـ(إيفان ديمتريفيتش تشرفياكوف) بطل قصة تشيكوف الشهيرة (وفاة موظف)، فقط قَدِّر الأمر قدره وزِن مشاعرك وتَصَرَف على هذا الأساس، الاعتذار في غير موضعه سيئٌ تمامًا كعدم الاعتذار في موضع الاعتذار، لا تعتذر أبدًا إن لم تكن مقتنعًا بأنك مخطئ، فإن كنت مخطئًا بالفعل، فاعتذارك -وأنت غير مقتنع- سيكون سخيفًا ماسخًا، وإن لم تكن مخطئا في الأصل، فاعتذارك لا داعي له.
في النهاية: إن كان الاعتذار عن الخطأ واجبًا، فقبول الاعتذار الصادق واجب أيضًا وهو من النبل، واعلم أنه إن غرس أحدهم في عينك سكينًا، فإن نزع السكين لن يكون اعتذارًا مناسبًا لك، بعض الأخطاء تترك أثرًا لا يكفي الندم والاعتذار لإصلاحه، فاحذر.
وكقاعدة:
"إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ".
"لَا تَتكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا".
إذا كنت لا تعني أن تعتذر فلا داعي لأن تعتذر.
إذا اعتذرت وأنت غير نادم على خطئك فأنت لم تعتذر.
إذا لم يصاحب اعتذارك صبرًا على غضب من تعتذر له فأنت لم تعتذر.
إذا اعتذرت وأنت غير صادق في اعتذارك فأنت لم تعتذر.
إذا اعتذرت بقولة "متزعلش" فأنت لم تعتذر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.