لم يتبقّ من الزمن سوى 48 ساعة على موعد الجمعية العمومية التي دعت إليها نقابة الأطباء بمصر للتصويت على تنظيم إضراب عام، في حالة استمرار إصرار وزارة الداخلية على عدم ضبط وإحضار أمناء الشرطة المتّهمين في واقعة اقتحام مستشفى المطرية والاعتداء على الأطباء العاملين بها وتوجيه التهم الجنائية لهم.
وتأتي تلك الخطوة التصعيدية في ظلّ محاولة رفض التمييز المجتمعي الذي يحظى به أمناء الشرطة على حساب الأطباء كما عبّرت عنها النقابة.
الواقع الاجتماعي
وبعيداً عن الأزمة في شقها القانوني وبقراءة دقيقة للواقع كما هو على الأرض، مكّن اكتشاف بعض الحقائق والمفارقات، ومنها أن الطبيب المصري الذي يدرس بعد المرحلة الثانوية لـ 7 سنوات كاملة لا يحصل على العائد المالي نفسه والوضع المجتمعي والنفوذ داخل الدولة الذي يحظى به أمناء الشرطة في مصر، والذين تتوقف دراستهم على سنتين في معهد الأمناء بعد اجتياز الثانوية العامة أو دبلوم المدارس الفنية الذي يعادل الثانوية.
وعن الأوضاع التي يعيشها الأطباء، قال الدكتور حسام عبد الغفار المتحدّث السابق باسم وزارة الصحة إن الأطباء في مصر "يعملون في ظروف سيئة، ولا يحصلون على حقوقهم المالية والأدبية التي تليق بأي دولة نامية تسعى لتوفير وضعٍ اجتماعي مناسب لقادة أيّ نموٍ من تعليم وصحة وقضاء"، على حد تعبيره.
وأكد عبد الغفار في تصريحات خاصة لـ "عربي بوست" أن الأزمة الأخيرة التي تعرض لها الأطباء في المطرية، أثبتت أنهم يعملون في مؤسسات حكومية لا تقوم بدورها في الحفاظ عليهم، والدفاع عنهم ضد أي اعتداء يحدث بحقهم، مشيراً إلى أن هذا الأمر يزيد من جرأة أي معتد على الأطباء، ويعد أهم أسباب تكرار حوادث التعدي على الأطباء بالمستشفيات.
وأوضح المتحدث السابق باسم وزارة الصحة، أن الأطباء يعملون في أجواء تشهير بغير الحقيقة بحق الأطباء، وقال "نحن الدولة الوحيدة في العالم التي يتم فيها الحكم على الخطأ الطبي من خلال وسائل الإعلام، ولا توجد قضية واحدة تم التشهير فيها بسمعة أطباء مصر نتيجة حكم قضائي استند إلى تقارير فنية، ولو حدث هذا بالخارج لتسبب ذلك في فرض تعويضات ضخمة على من قام بنشر تلك الادعاءات."
وفيما يخص الوضع المالي، ذكر الدكتور عبد الغفار أن "العائد المالي للأطباء ضعيف جداً وفقاً لما يتناسب مع طبيعة عمل الطبيب، والمستوى التعليمي الذي حصل عليه ليتأهل للعمل بتلك المهنة".
وأضاف أنه "لا يتخطى راتب الطبيب في بداية عمله الـ 2000 جنيه مصري وذلك بعد تعديلات الرواتب وفق القانون الصادر في العام 2014، في مقابل أرقام أكبر تحصل عليها فئات أخرى، مشيراً إلى أن الراتب العادل للطبيب في مصر "يجب أن يتراوح بين الـ 15 والـ 20 ألف جنيه إذا كان طبيباً متفرغاً".
خبرة طويلة بلا عائد
وقال كامل محمد الطبيب بأحد المستشفيات الحكومية، إن راتبه الشهري وصل إلى 2400 جنيه فقط بعد عمل دام 20 عاماً بإحدى المستشفيات الحكومية، وذلك رغم الزيادات المالية التي يتم الإعلان عنها بالنسبة للعديد من الجهات والفئات من موظفي الدولة، وخاصة من العاملين بالشرطة أو القوات المسلحة أو القضاء.
وقال "إن راتب الطبيب يتم احتسابه وفقاً للدرجة الوظيفية لموظفي الدولة المصرية، وهنا يتساوى جميع الخريجين الجامعيين مع الأطباء، وهو الأمر الذي لا يتناسب مع المخاطر التي يتعرض لها الطبيب، وتؤدي إلى وفاة العديد من الأطباء بالمستشفيات العامة أو إصابتهم بأمراض كثيرة بسبب العدوى".
وفي دفاعه عن الأخطاء الطبية التي بدأت وسائل الإعلام المصرية تسرد قصصها بالتزامن مع أزمة اعتداء أمناء الشرطة على طبيبي المطرية، قال كامل "إن الجانب الكبير من الأخطاء التي يتم تشويه صورة الأطباء بها، تكون نتيجة ضعف الإمكانيات المالية للمستشفيات الحكومية"، منوها إلى الحملة التي دشنها عددٌ من الأطباء تحت مسمى "علشان لو جِه ما يتفاجئش"، وذلك "للكشف عن حجم المعاناة التي يواجها الأطباء في البلد".
وكانت الحملة التي دشنها الأطباء في يونيو/تموز 2015 بصورة ساخرة، تكشف الوضع المزري بالمستشفيات التي يعملون بها، وكان الهدف منها عند إطلاقها على فيسبوك إرسال إشارة إلى رئيس الوزراء المصري السابق المهندس إبراهيم محلب، "حتى لا يُفاجَأ وقت نزوله للزيارات التي يقوم بها مرة أخرى".
وكان محلب قال في تصريح للصحف المصرية قبل ذلك أنه "فوجئ بالمستوى غير اللائق لأحد المستشفيات في مصر"، ليرد عليه الأطباء بتلك الحملة.
وكان أبرز تلك الصور ظهور عدد من ثعابين الكوبرا المصرية وطائر البوم داخل مستشفى المنيا العام والحيوانات الأخرى كالقطط والحمير بعددٍ من المستشفيات الأخرى، فضلاً عن سكن الأطباء المتردي على مستوى المستشفيات الحكومية، ومنها مستشفى بولاق الدكرور على سبيل المثال.
أمناء الشرطة
في مقابل هذا الواقع الذي يعيشه الأطباء المسؤولون عن حماية صحة المصريين، هناك صورة أخرى يكشفها العميد محمود قطري الخبير الأمني، بقوله إن أمناء الشرطة في مصر "من الفئات التي يزداد نفوذها بشكل كبير في البلد، كما طرأ تحسن كبير في العائد المالي الخاص بهم، وأصبح الحد الأدنى لأي أمين شرطة في مصر لا يقل عن 2000 جنيه مصري، وذلك لمن يتخرج حديثاً من معهد أمناء الشرطة، وسرعان ما يصل الراتب خلال سنوات قليلة إلى 8000 جنيه".
وأكد قطري في تصريح لـ"عربي بوست" إن نفوذ أمناء الشرطة في مصر وصل إلى درجة أن هناك خوفاً شديداً لدى قيادات وزارة الداخلية من الصدام معهم، و"هو ما زاد من شعور السطوة لديهم"، على حد تعبيره.
وأشار إلى أن إلغاء المحاكمات العسكرية لأفراد الشرطة "أزال خوف أمناء الشرطة من فرض نفوذهم في محيط عملهم، وهو الأمر الذي يفسّر كثرة حوادث التعدي التي يقوم بها أفراد من تلك الفئة كما في حادث المستشفى الأخير".
وذكر الخبير الأمني، أن صورة "حاتم" التي جسدت نموذجاً سلبياً لأمين الشرطة في أحد الأفلام المصرية – "هي فوضى "- وما لها من نفوذ وقوة وبطش، لا تعد نموذجاً استثنائياً، ولكنه موجود بصور متفاوتة في جميع أقسام مصر".. وهناك من يطلقون عليه "بلوك أمين"، وهو الذي يقوم بتوزيع الخدمات داخل قسم الشرطة، ويتحكم جميع الأفراد به، وينال مقابل ذلك عائداً مالياً كبيراً، ويعد نموذجاً للفساد المقنن، والمقابل المالي من توزيع الأمناء على الأماكن "الطرية" بالتعبير الشعبي والذي يعني الأماكن التي تدر عوائد مالية للأمناء من فرض إتاوات على المواطنين أو الأماكن التي بها دوريات المرور."
وأشار العميد قطري إلى أن هناك أباطرة للفساد من أمناء الشرطة، "وهؤلاء يكونون من فئة الملاصقين لقيادات الداخلية الكبار، أو في أحد الأجهزة الأمنية الحساسة، حيث يكون لديهم القدرة على تكوين شبكة علاقات وتمرير صفقات بأرقام مالية كبيرة أو الحصول على حوافز خرافية نتيجة عملهم الأساسي نفسه"، وضرب مثالاً على ذلك بما تم الكشف عنه مؤخراً في قضية وزير الداخلية الأسبق اللواء حبيب العادلي، والحديث عن رد أمين شرطة لمبلغ 20 مليون جنيه حصل عليها كمكافأة أو حافز لتحديد الأهداف الأمنية مع أن هذا التحديد هو عمله الأساسي.