كثيرًا ما كانت تأخذني هذه السيدة بثقافتها الواسعة، في كل سؤال لها جواب وافٍ وبسيط، بعيدا عن الفلسفة والنظريات، وإنما جوابها يكون عمليًّا، كنت من أشد الناس إعجاباً بها، مجال سحري يجذبني إليها، كل شيء فيها جميل، ثقافتها، شكلها، هندامها وابتسامتها.
في ذات مرة كنت أقرأ مقالاً في مجلة ورقية ولفتني عنوان سبق وأن تناقشنا فيه سوياً، ركضت إليها وأعطيتها المجلة سعيدة لأثبت لها صحة ما قالت، كانت مشغولة في شيء آخر ولفتني وقد أدهشني أنها أمسكت المجلة بالمقلوب، فضحكتُ بمرح وقلت لها: "تبدين مشغولة ولم تنتبهي أن المجلة بالمقلوب".. احمرت وجنتاها ونظرت إليَّ قائلة: "معك حق".. وأعادت لي المجلة وقالت لي:
" تماما مثلما أجبتك في المرة الماضية".
أدهشني أنني اكتشفت.. أنها لا تقرأ ولا تكتب، لكن من أين لها بكل هذه المعلومات والثقافة؟ ألم يعلمونا أن القراءة هي رأس المعرفة؟ ألم ندخل المدارس لنتعلم القراءة والكتابة وعلوما أخرى؟ ولكنها تعرف الكثير بدون هذا وذاك، وأكثر مني وأحيانا من معلمتي، وقد ساعدتني كثيراً في فهم مسألة علمية أو ثقافية وأحياناً الحساب.
لم تكن هذه السيدة عادية، فعلمت لاحقاً أن سر ثقافتها هي مدرسة الحياة وكل ما حولها، تجيد إدارة بيتها ووقتها والإشراف على تعليم أطفالها بحكمة وذكاء، لم تكن من السيدات اللاتي أسرفن على أنفسهن بالزيارات والمظاهر الكذابة وحوارات النميمة وفتح الفنجانين والدوران في الأسواق، كان لها طقوسها وزياراتها الخاصة لأي حلقة علم أو ندوة ثقافية تسمع بها في جمعية ما أو مسجد، لم تكن تجيد القيادة ولكن المواصلات تصل القريب والبعيد، هكذا كانت تقول دوما.
في خضم انشغالها في أعمال المنزل تسمع عن بُعد راديو البي بي سي يصدح بإحدى برامجه الثقافية في ذلك الزمان، حيث لم تصل خيوط الشبكة العنكبوتية بلادنا بعد، وحتى برامج التلفزيون كانت محدودة ولكنها كانت تنتقي منها كل شيء يفيدها ويفيد أطفالها.
كم كان يخفق قلبي لرؤية هذه السيدة التي هي في عرف مجتمعنا أُمية لا تجيد فك الحرف، ولكنها في نظري كانت موسوعة علمية متنقلة، كل شيء كان يثير فضولها وتبحث لمعرفة المزيد عنه، فتجيد زراعة الأشجار والورد والرياحين بشتى أنواعها، تعرف كل نوع متى موسمه الزراعي، وهل يحتاج مياهًا كثيرة أو بعل؟ وهل يجب أن يكون في الشمس أو الظل؟ تعرف موسم تزاوج الطيور وتجدها تحاول توفير كل ما يأمن تزاوج هذه الطيور بهناء وسعادة ووضع بيوضها في أعشاش صنعتها في أي فوهة في جدار البيت الخارجي، تذهب إلى السوق وتعود بكتب صغيرة لأطفالها توزعها عليهم وهي سعيدة طالبة منهم مقابلاً مذهلاً وهو أن يتناوبوا في قراءة هذه القصص لها قبل نومهم.
وعندما أستذكر تربية أطفالها وكأنني أقرأ في كتب تربية الأطفال الحديثة التي تملأ رفوف المكتبات الآن وتجد المتعلمين ينهلون منها كل أسلوب يساعدهم في تربية هذا الجيل الصاعد، ولكنها لو كانت تقرأ لا أظن أنها ستحتاج قراءة هذه الكتب، فكانت تتعامل مع أطفالها كل حسب شخصيته، فالعنيد ليس كالحليم والطائش ليس كالهادئ والمراهق ليس كالطفل، كان لديها مفاتيح الدخول في شخصياتهم جميعًا وحل أي معضلة أو سوء تفاهم، أما متابعتهم المدرسية فربما كانت الأم الوحيدة التي تحضر كل أسبوع وتسأل معلمات الأطفال عن مستواهم وسلوكياتهم ودون علم الأطفال أنفسهم، فيتفاجأ الأبناء بأنها على علم بكل صغيرة وكبيرة وعندما يسألونها من أين لك هذا؟ تجيبهم قائلة: العصفورة قالت لي!
من قال إن العلم هو لمن يقرأ ويكتب ويذهب إلى الجامعات والمعاهد، بل العلم هو بالكيفية وليس بالكم، العلم هو الذي يجمع الحكمة والمعرفة معاً ويطبق في كل مناحي الحياة لنصنع منه شيئاً جميلاً باقياً، فإن انعدمت طرق العلم وحُرم الإنسان لظرف أو لآخر من تحصيله في بيوته، فإن هناك مئات الطرق ليحصله وهو في عقر داره، وهو وحده من يستطيع أن يشكل كل الأدوات التي تؤدي إلى العلم بيديه كالصلصال ويجعلها هالة من نور تحيطه في كل زمان ومكان، تماما كتلك السيدة التي تخرج أولادها من الجامعات وأصبح كل واحد منهم يتقلد مكانة في مجتمعه بنجاح، أما هي فقد أصبحت تقرأ وتكتب وتجيد قيادة السيارة لتسهل عليها الوصول إلى أي محفل معرفة تنهل منه المزيد والمزيد بكل سعادة وهناء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.