اليابانيون.. كيف ولماذا؟ 1

فمثلا نجد ما يتميز به الفرد الياباني من حرص شديد في التمسك بتطبيق القواعد والقوانين ولكننا في نفس الوقت نكتشف ما يتميز به من مقدرة على التكيف والتلاؤم مع البيئات المختلفة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/08 الساعة 01:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/08 الساعة 01:50 بتوقيت غرينتش

لطالما فتنتنا وحيرتنا الشخصية اليابانية في طباعها وسلوكها المتفرد عن غيرها من الثقافات الأخرى، سواء كانت تلك الثقافات متقاربة معها جغرافياً أو بعيدة عنها ثقافيًّا وفكريًّا.
ولطالما أيضا ظللتُ أبحث وأفكر دائمًا عن إجابات وتفسيرات لكثير من الأسئلة كانت وما تزال تدور في خلدي منذ أن وطأت قدماي هذا البلد. أسئلة تطرح نفسها بنفسها عليّ في كل يوم يمر بي هنا، وذلك من خلال ما تراه عيناي أو تسمعه أذناي داخل المجتمع الياباني.

عشرون عاما مضت منذ أن وطأت قدماي هذا البلد، عشرون عاما بدأتها برحلة كان كل زادي فيها هو 800 دولار وتذكرة ذهاب دون عودة. وكان هدفي الدراسة فالدراسة ثم الدراسة، ولكن في النهاية استقر بي الأمر إلى الإقامة والعمل في اليابان والتدريس بإحدى جامعاتها المعروفة.

وعلى مدار هذه السنوات الطويلة من الدراسة والعمل أتذكر أنه ما ثمة من مرة تحدثت فيها مع أحد من أصدقائنا العرب عن أمر من الأمور سواء تعلق الأمر بالحياة العادية، أو أمر خصّ جانبا من الجوانب الفكرية والسلوكية، إلا وتخلل حديثنا أداتا استفهام هما: "كيف؟" و"لماذا؟".

لماذا يفعلون ذلك؟ وكيف استطاعوا أن يحققوا هذا الأمر؟ كيف تسنى لليابانيين تحقيق هذا التقدم الاقتصادي والحضاري وهذا النجاح المبهر من نوعه؟ ما هو سر هذا التقدم؟ كيف يفكر الياباني ويتعامل مع أمور حياته؟.. وغيرها من الأسئلة.

الكثير والكثير من علامات الاستفهام تجاه سلوك شعب طالما حير عقولنا نحن كعرب وعقول العالم بسماته وطبائعه المتفردة والمبهمة أحيانا. وعلى الرغم مما أمتلكه من خبرات وخلفيات علمية وعملية أعتقد أنها تظل غير كافية لتؤهلني لإتقان فن التعامل مع الآخرين في هذا المجتمع.

وأيضا، بالإضافة إلى مقدرتي على استخدام اللغة اليابانية بشكل لا يقل أبداً عن ناطقي أهل بلدها، إلا أنه بالرغم من ذلك يعجز عقلي كثيراً عن استيعاب الكثير من الأمور ويقف حائراً في تفسير العديد من الحالات المتعلقة بسلوك وطبائع الشخصية اليابانية، حيث إننا نجد في المجتمع الياباني الكثير من أنماط السلوك الفردية تجمع في طياتها الكثير من الخصائص المتناقضة في طبيعتها وهذا ما يثير الجدل والتساؤل عن السبب في حدوث ذلك.

فمثلا نجد ما يتميز به الفرد الياباني من حرص شديد في التمسك بتطبيق القواعد والقوانين ولكننا في نفس الوقت نكتشف ما يتميز به من مقدرة على التكيف والتلاؤم مع البيئات المختلفة.

كذلك نجده يحمل بصدره كما كبيرا من القدرة على الطاعة والامتثال للآخرين ولكننا في الوقت ذاته نجده شخصا لا يخضع للسيطرة والتحكم الكامل من قبل الإدارة العليا أو السلطة المتحكمة فيه.

وعلى الرغم من تميز الشخصية اليابانية بسمة الحفاظ الشديد على الآداب العامة والالتزام الكامل بآداب التعامل واحترام الآخرين إلا أنه في نفس الوقت يتسم بصفات التعالي والتكبر. أيضاً نجده يعيش حياة بسيطة غير متكلفة نراه أيضا محباً للحياة المليئة بالمرفهات ووسائل الراحة المختلفة.

والفرد الياباني أيضا يتصرف آخذاً بعين الاعتبار رد فعل المحيطين به من الناس إلا أننا نجد في نفس الوقت أن لديه ضميرا قويا لا مثيل له في مكان آخر من العالم يعتمد عليه في تصرفاته وفي إصدار قرارته.

إن ذلك الفرد الياباني الذي يضرب به المثل في الشجاعة نراه أحيانًا في نفس الوقت يتسم بالخوف في اتخاذ القرارات وأداء الأعمال.
وبالرغم مما يقال عن الشعب الياباني بأنه يتسم بصفة الانغلاق والرجعية الشديدة في أنظمته الاجتماعية إلا أننا نجده في نفس الوقت لديه شغف كبير للتعرف على العلوم الغربية وتعلم الكثير منها.إن المجتمع الياباني باختصار عبارة عن نسيج واحد متآلف من كل هذه التناقضات وغيرها في عالم شديد التناقض.

وأتخذ في تجربتي البحثية هذه منهجاً أسميه "منهج قواعد التحول والتنوع الثقافي" وهو أحد فروع علوم اللغة والتواصل الاجتماعي، والهدف منه هو البحث في طبيعة المجتمع الياباني من خلال فكره اللغوي، بهدف التعرف على مقوماته الأساسية وتنظيمه الاجتماعي في بناه التحتية والفوقية الظاهرة والخفية وثقافته بمختلف تفرعاتها واتجاهاتها وملامح حسه الفكري والفلسفي وقيمه وأخلاقياته وانعكاس ذلك أيضاً على قضاياه وانشغالاته وتناقضه في علاقته بنفسه والآخر.

وهأنا اليوم كعادتي أخرج مبكرا متوجها إلى عملي الذي يبعد قرابة الساعتين والنصف عن منزلي الكائن بالعاصمة طوكيو وتراني كعادتي العربية المصرية أرسم على وجهي ابتسامة أتبادل من خلالها التحية مع بعض من جيراني اليابانيين. وقد يتهيأ لك أن التواصل مع الآخرين بمثل هذا النوع من الإيجابية في السلوك أمر عادي، ولكنه في الحقيقة ليس بالأمر السهل في اليابان، فالتحية لا شكّ أنها واجبة ولكنها ليست ممكنة مع كل من يحيط بك، فعليك أن تدرك أنك هنا لست في نيويورك أو لندن، وما أقصده أن التفاعل مع من حولك لن يتعدى تحية الصباح أو المساء وحتى التحية لها مقاييس خاصة بها في كيفية استخداماتها، فعليك أن تدرك أن أهم شيء في ربط العلاقات مع الآخرين هنا في اليابان هو أن تكون قادرا على الحفاظ على المسافة الاجتماعية مع الآخرين وألا تحاول أن تتعدى أو تزيل هذه المسافات بينك وبين من يحيط بك سواء كان ذلك المحيط محيط عمل أو محيط سكن أو حتى محيطا عائليا.

في الكثير من المجتمعات الغربية والعربية تصبح التحية أداة أو وسيلة للتقارب وتقليص المسافات بين أفراد المجتمع الواحد، إلا أن هذه القاعدة تختلف في اليابان حيث تسيطر قاعدة من نوع آخر على ديناميكية السلوك الاجتماعي ألا وهي أن المسافات شيء ضروري من أجل الحفاظ على التوازن في العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد وأن الحفاظ عليها يضمن لكلا الطرفين الوئام والسلام.

إن الابتسامة الواسعة العريضة والكلمات المنمقة الكثيرة التي تعبر عن احتفائك بالآخر واهتمامك به أشياء ليس لها أهمية كبيرة في ميزان العقلية اليابانية فتلك أشياء قد تحتاج إليها فقط في بعض المواقف التي تتطلب منك القيام بذلك. أما دون ذلك فالأهم بالنسبة للعقلية اليابانية هو أن يكون الحفاظ على مستوى التواصل والتحية المتبادل في حيّز نطاق العلاقة والمسافة الاجتماعية الفاصلة بينك وبين الآخر وكما يقولون هنا "حافظ على قواعد الأدب مع الآخرين حتى وإن كان ذلك شخصا ذا علاقة حميمة معك أو أحد المقربين منك".

لذلك فعليّ أن أكون قادرا على التحكم في أسلوب التعامل مع الآخرين، فتارة أكون على طبيعتي المصرية العربية التي ترغب في التواصل مع كل من يحيط بها مجتهدا في مد جسر التواصل بيني وبين أفراد المجتمع الياباني، وتارة أخرى أحافظ على حيّز المسافة متوخيًا الحذر من عدم تخطيها من أجل الحفاظ على علاقة متوائمة مع الطرف الآخر.
وعلى لقاء في الأجزاء القادمة إن شاء الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد