حقيقة سر تعلمته بقسوة

كثيرون هم ضحايا اليأس المقرون بقرارات خاطئة في الحياة، يمكنك أن تعطيه تشبيهات عدة كالإغماء في حالة وعي، أو ربما موت العقل المؤقت بالفكرة الصحيحة، والتي تحتاج غالبًا لمن خبأهم القدر في حياتنا، نلاقيهم في زمان محدد وساعة محددة ليغيروا مجرى حياتنا، بل يضخون الأكسجين فيها لتحيا من جديد

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/07 الساعة 00:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/07 الساعة 00:49 بتوقيت غرينتش

هي محاولة عتق مسار مستقبل لطالما حلم بأفضل منه، واليوم يتأمل السنين التي مرت بسرعة، نعم تسع سنوات مرت كالبرق، لم يكن يدري تلك السنة، هل ما يحس به رغبة في الاستكشاف، أم طمس ملامح الفشل الذي يتخبط فيه منذ مدة، أو كونه ضحية نظام مجتمعي ذي نظرة خاطئة للظروف، والأشياء والحاجيات، وكذا الأساسيات للعيش بقيمة في وطن جريح كهذا، أم قلة فرص أم رسوبه في الباكالوريا وانقطاعه عن الدراسة.. أم الإمكانات مادية التي لعبت حلقة أهم ليفشل، علامات استفهام تطارده من كل حدب وصوب، هو الكائن التائه في أرض الاختيار والقرار.

كان المكان جنوبا (المغرب)، على بعد ألف كيلومتر فاصلة بين مدينته "طانطان" ومكانه آنذاك، لم يكن بوسعه حينها سوى أن يكمل تلك المسافة المتبقية مشيا على الأقدام بالطريق بين مدينتي "بوجدور" و"الداخلة "، سيعود أدراجه بعد أن قضى قرابة العام بمدينة لم يفهم فيها إلى اليوم سوى أنها مدرسة علمته دروس الزمان في عام واحد إنها "الداخلة" الساحرة التي كان يلعنها وهو يهجرها.

الفكرة التي راودته وهي مغادرة المدينة عصرا كانت فاشلة، فالشاحنات المتوجهة صوب ميناء مدينة "العيون" لا تحمل في طريقها غرباء ليلا ولو بدفع المال، وسرعان ما أرخى الظلام بظلاله على المكان، وهو منهك يحدو حدوه بجانب الطريق الوطنية، فكان لا بد أن يقضي ليلة أخرى في خليج الداخلة، متيقنا ومما لا شك فيه أن ليلة أخرى تعني مصروفًا آخر سيصرف، وخطته هذه لم تكن سوى لادِّخار بعض المال لأن رحلته ما زالت طويلة، تسلل لحديقة تابعة لإحدى محطات الوقود المتواجدة في طرقات الصحارى المعبدة للمبيت، هو الآن مبتعد عن المدينة حوالي عشرين كيلومترًا شمالًا، انزوى بركن منها وتلحف لحافا رفيعا تناوله من محفظة ظهر، ليبقى مستقرا في دفء مناسب قليلًا حتى بزوغ فجر اليوم الموالي.
قضى ليلة بعشاء كان حليبا وبعض الخبز، يذكر لحظتها أنه لم ينم سوى للحظات مبعثرة فقد كان يستيقظ على أخف صوت ترصده أذناه على مقربة منه.

قبيل طلوع ضوء الصباح، سيعلم من مستخدم محطة البنزين أن لديه اختيارا من اثنين، إما العودة للمدينة ليستقل شاحنة من الحي الصناعي، أو ينتظر حتى المساء قد يساعده بالركوب في وسيلة نقل ممن يتزودون بالوقود عندهم، لكن الشاب اضطر إلى العودة، وكانت انطلاقته لمغادرة المدينة نهائيًّا في مساء اليوم ذاته لوجهته المفترضة، صور كثيرة راودته ومشاهد بالأطنان، وهو بجانب سائق الشاحنة الأوروبية الترقيم، الناقلة للسمك بين الداخلة وألميريا الإسبانية، سهو تفكير، ولا شيء يعلو صداه في أذنه على صوت ذلك البحار الذي التقاه في الميناء، حيث كان يعمل بين ترقيع الشباك وبيع السمك، فنصحه لإتمام المشوار كان قويًا، يسترجع المشهد مدركًا في عينيه حسرة الأب للابن، ولا سيما بعد معرفته أنه كان يدرس وانقطع لظروف خاصة، لمس في حديث الرجل البحار نبرة العاطفة التي تدفع للاقتناع، وأخذ كلامه بحزم على محمل الجد والتفعيل الفوري، ولربما الذي يبشر بنجاح وتحقيق أهداف في الأفق.

إنه اليوم ممتن للصدفة، وللبحار وشاكر للظرف القاسي الذي خلخل أفكاره المرتمية في طن أسئلة مبهمة، لكن إجاباتها علمته أن يصغي أكثر للأحداث والمحن، أيقن أن الدرس له أكثر من نوع ووطن خارج حجراته، فهناك الأكثر حكمة هو ذاك المتدحرج عبر عوالم الزمان والمكان، وهو الأجدر بالإنصات، المفضي لتصحيح النظرة والوجهة، بل القرار أيضًا، أحيانًا من الأفضل أن نترك خطاب الذات اليائس جانبًا، ونخرج من مركزيتها فهناك من وضعه القدر منتظرا في بقعة من بقاع العالم بكلمة منه تجعلنا أحياءً بعد أن فضل البعض منا أن يكون الميت الحي، لا أقل ولا أكثر..
في لحظة من سهوي العميق استيقظت على منبه الشاحنة التي تقلني، أرقب الطريق التي تلتهمها سرعة المسير، كنت تائهًا نعم، لكنني أعرف مرساي واتخذت قراري، وكان للسفر بقية..

كثيرون هم ضحايا اليأس المقرون بقرارات خاطئة في الحياة، يمكنك أن تعطيه تشبيهات عدة كالإغماء في حالة وعي، أو ربما موت العقل المؤقت بالفكرة الصحيحة، والتي تحتاج غالبًا لمن خبأهم القدر في حياتنا، نلاقيهم في زمان محدد وساعة محددة ليغيروا مجرى حياتنا، بل يضخون الأكسجين فيها لتحيا من جديد، منذ مدة طرحت أسئلة على نفسي كيف لذلك الشاب الذي اتخذ نمطا نهائيا لحياته ليعيش على درر البحر، أن يغير النمط والوجهة لمجرد كلمات صادقة أحسها من غريب ليدرك طاقاته، كأن يومها أرسل لكتابة شيء من هذه الأسطر والترهات التي أدمنها منذ تسع سنوات، لكن المضحك في الأمر، أنه لم يكن يعلم حينها، أن بعضا منها سيأتي يومًا لتحتل عناوينه صدر الصحف الوطنية، بل ليعلم أن هناك طاقة وإرادة بها قد نحرك أثقل هموم الدنيا، تلك حقيقة السر الذي تعلمته بقسوتها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد