قال الإعلامي الأميركي الساخر جون ستيوارت: "إن الحكومات التي لا تستطيع التعامل مع نكتة أو مزحة لن تستطيع التعامل مع المشكلات الحقيقية التي قد تواجه الدولة".. وكم هو مصيبٌ في هذا التعبير!
فعلى مدار التاريخ كُممت العديد من أفواه الساخرين واعتبرتهم الدول مهرجين مهرطقين وأنهم ضلوا عن الحق المبين وسعت لتشويه صورهم عبر التاريخ، وكثير من الناس يخلطون بين "السخرية" الهادفة و"المسخرة" القائمة على الإفيهات والقفشات.
أغلب من يعرفونني يعلمون مدى حبي للثرثرة المستمرة والضحك والمزاح وكتابة المقالات الطويلة.. واليوم لم أجد ما أكتبه من بنات أفكاري، ربما لأنه من الصعب أن تشيد بابنك، لأن شهادتك مجروحة فيما تقول هكذا حالي اليوم لا أعرف من أين أبدأ، فبحكم كوني كاتبة ساخرة ومن أشد المدافعات عن هذا الفن الأدبي الراقي لا أعلم ماذا أكتب.
وحتى تواتيني الكلمات بحثت عبر بعض الكتب الموجودة بدرجي وعبر الإنترنت وعلمت ماذا أكتب..
قالوا عن الكاتب الساخر: "إنه كالنحلة تلسع وتطير قبل أن يشعر الإنسان بما حدث" هكذا هو الكاتب الساخر يفتش عن التفاصيل ويبحث عن المعاني والكلمات ويعيد قولبتها بصورة ساخرة ثم يتخير الأفضل فيختنق هو بالتفاصيل ليخرج لك عبارة أو كلمات مجملة ومعبرة عن تلك التفاصيل، ألم تسألوا أنفسكم يوما لمَ نجد آلاف الروائيين والكتَاب في شتى المجالات وفي المقابل يمكن أن تعد الكتاب الساخرين على أناملك؟
ببساطة الكاتب الساخر لا بد أن يكون فنانا عبقريا متميزا داهية سريع البديهة ذكي الاختيار في الموضوعات والقضايا التي يتناولها، والغريب أن الكاتب الساخر يجمع الضدين فمن ظاهره قد تجده سعيدا متفائلا يبث الأمل ويصنع الابتسامة على وجوه غيره، وفي باطنه يعتصر ألمًا على الكوميديا السوداء التي يحيا بها؛ فالكاتب الساخر هو الوحيد الذي يضحكك ويبكيك في ذات الوقت وإزاء ذات الموقف ولعل سر الكمال في الأدب الساخر الجمع بين الضدين.
الكاتب الساخر ليس مهرجا هزليا وليس كوميديان بل هو عقل ينشر فكرة بأسلوب قريب من القلب والعقل، فهدفه ليس إثارة الضحك وإلا باتت مسخرة بل يرمي إلى أبعد من ذلك فهدفه هو سلب عقلك وجذب انتباهك والسخرية بالنسبة له مجرد غلاف خارجي لمشكلة أو قضية شائكة يريد منك أن تعيرها الاهتمام..
السخرية سلاح حاربته الحكومات لأن تلك الحكومات تعي حقيقة أن من استطاع أن يضحك الناس يستطيع أيضا أن يبكيها، ويستطيع أن يجعلها تفعل أي شيء آخر.. فالكتابة الساخرة مخدر لكنها المخدر الوحيد الذي يجعلك تستفيق شأنها شأن مشروبات الطاقة وإن استفاقت الشعوب تخشاها الحكومات وعلى هذا فالكتابة الساخرة معركة رابحها كاتبها وخاسرها من يحاربها..
الكتابة الساخرة -كما يعرِّفها علماء النفس- "سلاح ذاتي يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخلية ضد الخواء والجنون المطبق إذ إن السخرية رغم هذا الامتلاء الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة تخفي خلفها أنهاراً من الدموع.. إنها مانعة صواعق ضد الانهيار النفسي لكاتبها"، وهو ما يفك لنا سرها الأعظم وهو أن كاتبها الذي يضحك الملايين قد يكون أتعس إنسان على وجه الأرض..
واسمحوا لي بأن ألخص هذا الفن في تلك العبارة التي قرأتها ولطالما رددتها: الفن الساخر هو فن التمرد على المألوف.. فهو الثورة على البديهيات التقليدية.. يعكس الواقع بجماله وقبحه.. يضحكك الجمال ويشقيك القبح وبذا يطلق عليه الكوميديا السوداء.. فالكاتب الساخر يصنع بسمة ويضرب قلبك بخنجر ورأسك بحجر حتى تنتبه لأوجاع وآلام وطنك ومشكلات حياتك..
إن السخرية والفن الساخر ليست هجاءً أو ذمًّا، بل نقدًا وتعرية لأوضاع مجتمع قد لا ينتبه إليها المواطن العادي،فكما ذكرت سلفا الكاتب الساخر يهتم بالتفاصيل ويمتلك عينًا تختلف عن أي شخص آخر في النظر للأمور.
إن الكاتب الساخر هو صاحب العين ثلاثية الأبعاد.. صاحب الوعي والفكر المستنير فهو يبحث ويتعمق ويقرأ ما بين السطور وما وراء الحدث والعمق هو البعد الثالث في المعالجة الساخرة الهادفة لأي موضوع، الشكليات والسطحيات تندرج ضمن النكات والقفشات أما العمق هو الذي يجعل القارئ يتوقف ليقرأ ويعيد قراءة الجملة أو الفقرة الساخرة ويعيها جيدا.. فالكتابة الساخرة هي السهل الممتنع وأكاد أجزم أن مصطلح السهل الممتنع وُضع لأجلها..
الكارثة حينما يخلط البعض بين الكتابة الساخرة الهادفة التي تنتقد الزيف وتكشف الأخطاء وتعري لنا المجتمع بممارسات وتصرفات وسلوكيات أفراده وبين السخرية والاستهزاء بالبشر؛ هنا تتحول السخرية إلى مسخرة فجة وإساءة لا مكان لها في الأدب الراقي، وقد يتعجب البعض من إصراري على وصف الكاتب الساخر وإعطائه مساحة أكبر من التطرق للكتابة للساخرة وأجيبهم: إن الكتابة الساخرة مفتاحها الوحيد هو ساخرها..
وكم أفخر يوميا بكوني كاتبة ساخرة وأتمنى أن تستمر رحلتي مع هذا الفن العريق، وأن أقدم يوما ما يجعل الناس تبتسم وتفكر وتمعن النظر في حياتها، ورغم أن الكتَاب الساخرين في العالم العربي لا يلقون ذات شهرة ومكانة الروائيين وكتَّاب السياسة والرومانسية، إلا أنهم يكتفون بمحبة الناس وثنائهم ويستمتعون بخلق البهجة في نفوسهم ومخاطبة عقولهم ووجدانهم..
وكم يؤسفني أن نجد ندرة في عدد الكاتبات الساخرات بمجتمعاتنا العربية، بل والأدهى ألا تجد أولئك الكاتبات الصدى والتشجيع اللازم لاستكمال رحلتها الإبداعية، رغم أن ذات الجمهور يقدم صدى واسعا للكتاب من ذوي الجنس الخشن..
وختاما رحم الله كل من أسعدونا وعلمونا بما كتبوا وأضحكونا بظاهر القول وأبكونا بباطنه المؤلم فجعلونا ننتبه لقضايا وهموم حياتنا وأوطاننا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.