وبينما أنا جالس أراقب أمواج ذلك الأزرق الهائج، واحدة قادمة والأخرى تتبعها والأخرى تتبعها.. ناداني مناد يحرك في نفسي رغبة الكتابة، ترددت قليلا.. فلم يكن مزاجي يساعد على ذلك.. لكن أمواج البحر المتقلبة قلبته رأسا على عقب.. كنت جالسا وورائي بائع فشار، رجل خمسيني العمر بشارب كثيف أسود، قوي الهيئة.. لا تزال ملامحه شابة، كيف لا وهو يطلق العنان لنفسه ليستمتع بموسيقى جميلة رفع من صوتها كطريقة لجلب المزيد من الزبائن.. هي أغاني الراي بلحنها الحزين الرنان، كانت الأغنية الأولى التي هبت على مسامعي أغنية تتحدث عن حب الأم.. تَدخَّل الناي فأخذ له وقتا ليًخرِج ما عنده.. (هذا الوقت) كان كافيا لإلهامي لكتابة ما جاد به القلم وما أوحته لي تلك الأمواج.. بين أحضانها أعاتبني، أتخيلني.. ماذا لو لم أكن إنساناً؟ ماذا كنت سأكون لو لم أكن أنا؟ لو خيرت لأكون سيد القرار، ماذا كنت سأختار وأفضل أن أكون غير هذا الإنسان كي أستطيع تحقيق كل ما أتمناه وأعيش حياة بلا ملل ولا كلل..
لو كنت مثلا طائرا.
أتخيلني طائراً صغير الحجم، أسود الرأس تتوسط جبيني ريشة بيضاء، لي جناحان صفراوان بخطوط سوداء.. وذيل طويل، ألست جميلا هكذا؟ لو كنت هذا الطائر لما تركت بقعة أرضية إلا ولمستها برجلي الصغيرتين هاتين، لأعود في النهاية لأسحر بمنظر هذا الأزرق الذي أطير بمحاذاة موجه محاولا أن أسبقه للشط.. مداعبا قطراته محافظا على انسيابي مع الريح الذي يجرني بقوته فأتصاعد معه كبخار ماء وجهته السماء، ألمس هذه الزرقاء أيضا تارة، والسحب البيضاء تارة، لكني عجزت أن ألمس الشمس تارات عدة، فصار حلمي الوحيد أن ألمس الشمس ولم أحققه لهذه الساعة.. حتى الطيور لا تستطيع تحقيق جميع أحلامها فما الفرق إذا لو كنت إنسانا أو طائرا؟
أتخيلني الآن حوتا، ماذا لو كنت حوتا أزرق بهيئته الضخمة وهبته التي يملكها في البحر؟ ألست من عشاق هذا العالم الأزرق وموجه؟ إذا لما لا أجرب العيش فيه؟ هكذا كان الأمر.. صرت حوتا أزرق ضخما محاولا تحقيق كل أحلامي كـ"حوت أزرق".. حوتا يسبح في أعماق البحار، أتمايل من هنا وهناك، أغني بصوتي الشجي مناديا جميلتي.. أقفز عاليا من فوق مسكني لأرى ماذا يوجد هناك.. أعانق جزيئات الهواء فتشدني اليابسة بمنظرها الخصب الأخضر وألوانها الزاهية للحظات فلا أستطيع التحمل فأعود خائبا لأسقط في أعماق أبي الأزرق.. اعذرني أيها الجميل لكني مللت هذا المكان، مللت كوني مبللا طول حياتي، أتمنى لو أستطيع أن أكون جافا ولو ليوم واحد على يابسة خضراء مستنشقا جزيئات الهواء وأنا لست جيفة مرمية بجانب الشط.. تمنيت لو أن اليابسة بلا هواء.. فصار هذا حلما يستحيل تحقيقه.. فما الفرق إذا بيني كإنسان أو كحوت إن لم أحقق جميع أحلامي؟
لو كنت مثلا جنيا؟ نعم، جني.. عفريت، لحققت كل ما أريد برمش عين، صرت كذلك واتخذت من كهف بين صخور البحر البيضاء بيتا لي، كونت قبيلتي وسميتها باسمي وجعلت لي سلطة بينهم، كل ما آمر به يأتيني في الحين.. لكني مللت هذا الوضع أيضا، فأنا أستطيع فعل الكثير ولكني خفي، لا أظهر للوجود.. فما فائدة ما أفعل إذا؟
هدأت الأمواج وهدأت معها روحي.. هدأت معها أناملي وانجلت الأفكار.. ضربت موجة قوية صخرة بنية اللون فتناثرت على وجهي قطرات ماء..
أتعلمون شيئا.. لو لم أكن إنسانا لفضلت أن أكون قطرة ماء، قطرة أسبح وألعب مدا وجزرا.. قطرة أصعد لأداعب السحب ولأنزل لأتغلغل في جوف الأرض.. قطرة ماء إذا.. رائع..
في انتظار عيش تجارب حيوات أخرى.. همهمت بالنهوض متوجها نحو رجل الفشار، اقتنيت كيسا شاكرا إياه.. وعدت إنساناً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.