محاكمة في أديس أبابا 4/5

وإنما كان بداية لقصة أعظم بذل فيها آلاف المصريين دماءهم دفاعا عن دولة قامت بتزوير هذا التاريخ كجزء من حملة طويلة لتبرير سياسات لا تستهدف تحقيق مصالحها فقط، وإنما لتبرير تعطيش شعب مصر الذي أحبها وضحى من أجلها

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/31 الساعة 02:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/31 الساعة 02:14 بتوقيت غرينتش

القاهرة تمنح أديس أبابا مقراً للمخابرات الإثيوبية في بورسعيد!

يقال إن الحب -على روعته- يمثل حالة من حالات الارتباط النفسي، بمعني أن المتحابين يدخلان في حلف سيكولوجي يلزمهما الوفاء المتبادل، وعدم الخيانة، وتلبية الحاجات العاطفية والمادية لكل منهما الآخر بكل ما تعنيه الكلمة من معان. وإذا كانت هذه هي حالة الحب على صعيد الأفراد -وفي كثير من الأحيان بين الدول- فإن علاقة الحب التي ربطت مصر بإثيوبيا دولة وشعبا منذ فجر التاريخ انضوت على كل هذه المعاني وأكثر، وهي العلاقة التي أثمرت شجرة للحرية في ذلك البلد الواقع شرق إفريقيا.

ففي ثلاثينيات القرن العشرين كان قد مر على احتلال بريطانيا لمصر 58 عاما، وهي نفس الفترة التي شهدت فيها الساحة الدولية تغيرات أدت ببريطانيا دولة الاحتلال في مصر، إلى أن تتجاوب مع أطماع إيطاليا الفاشية في توسيع مستعمراتها على حساب إثيوبيا، ولكي تبدأ روما سلسلة من التحرشات بأديس أبابا لافتعال مبررات للعدوان عليها، ومن ثم احتلالها.

طبائع الأمور كانت تقول بأن مصر المحتلة، لم يكن لها أن تستطيع الوقوف في وجه هذه التفاهمات الدولية، باعتبار أنه لم يكن يسمح لها بأن تصوغ سياسات خارجية معارضة للمواقف الأساسية لدولة الاحتلال -بريطانيا- على المستوى الدولي، وبالتالي، فإن المنطق كان سيستقيم بأن تخضع مصر لذلك المخطط الذي استهدف احتلال إثيوبيا، وفي تلك الحالة لم يكن لأحد أن ينتقد القاهرة.

كانت تلك هي حسابات كل من بريطانيا وإيطاليا، إلا أن ما لم تدركه الدولتان، أن الحب خارج كل هذه الحسابات، وعلى هذا جرت الرياح في مصر بما لم تشته الدولتان الاستعماريتان، مع الوضع في الاعتبار أن المسالة بدأت برياح شعبية، تحولت في وقت قياسي إلى إعصار حرك مواقف رسمية مصرية متحدية لمواقف الدول الاستعمارية، وفي مقدمتها بريطانيا العظمى.

فبمجرد بدء التحرشات الإيطالية في العام 1930 بدأت الضغوط الشعبية في مصر على الحكومة لاتخاذ موقف مؤيد لإثيوبيا، وقد أخذت هذه الضغوط أشكالا عدة بداية من المسيرات ووصولا إلى المظاهرات التي عمت البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. نعم، مظاهرات عارمة، فليس هناك خطأ مطبعي، امتدت من الإسكندرية حتى أسوان لمطالبة مصر الرسمية باتخاذ موقف حازم إزاء مؤامرة واضحة لاحتلال دولة الجوار المباشر إثيوبيا.

وقد أثمرت هذه الضغوط الشعبية عن قيام حكومة مصر بتخصيص مبنى في مدينة بورسعيد لحكومة الراحل الإمبراطور هيلاسيلاسي لكي يكون مقرا لقنصليتها. إلا أن هذا المبنى لم يكن كأي مبنى، كما أنه لم يكن يحتل أي موقع! فقد اختارت الحكومة المصرية مبنى يقع على المدخل الشمالي لقناة السويس، وهو ما كان لافتا للنظر؛ فالنشاط القنصلي يمكن أن يمارس من أي مقر داخل المدينة وليس على رأس القناة! في الوقت ذاته، فإنه لا حركة التجارة مع إثيوبيا ولا عدد رعاياها في مصر كان يبرر إقامة قنصلية إثيوبية في تلك البقعة، ناهيك عن قيام الحكومة المصرية بمنحها مقرا وبالمجان.

الشاهد، أن الاختيار الدقيق لهذا المبنى قصد به في الحقيقة أن يكون موقعا للاستطلاع تستخدمه الحكومة الإثيوبية لرصد القطع البحرية الإيطالية المتوجه إلى الصومال الإيطالي وإريتريا للحشد العسكري تمهيدا للعدوان على إثيوبيا. بمعني آخر، تطوعت حكومة مصر في ذلك الوقت بمنح إثيوبيا محطة استطلاع استخبارية مجانا.

وبالطبع، فإن بريطانيا أدركت على الفور مغزى اختيار مصر مدينة بورسعيد مقرا للقنصلية الإثيوبية، وبالتأكيد فإنه لم يفتها انتقاء الحكومة المصرية لمبني يطل على المدخل الشمالي لقناة السويس، إلا أنها لم تستطع أن تغير من هذا الواقع، وإن سجلت تحفظها على القرار المصري.
إلا أن المشكلة تمثلت في أن الحكومة المصرية لم تستطع أن تطلع الرأي العام على مغزى قرارها الخاص بمقر القنصلية المُهدى للحكومة الإثيوبية، وبالتالي فإن المظاهرات الشعبية تواصلت مطالبة الدولة بمواقف أكثر حدة للرد على العدوان الإيطالي الوشيك.

وقد تمثل المطلب الرئيسي في ذلك الوقت في قيام الحكومة بإلغاء جوازات سفر العمال المصريين من فنيين مهرة، والذين كانت إيطاليا تستأجرهم للعمل في قواعدها العسكرية في شرق إفريقيا، كما طالبت المظاهرات الحكومة بإلغاء حقوق المرور الجوي للطائرات الإيطالية في أجواء مصر.

وبالرغم من استيائها من تلك التحركات، إلا أن حكومة بريطانيا اقتنعت بمنطق الحكومة المصرية بحتمية الاستجابة للمطالب الجماهيرىة حتى لا يتحول الاحتجاج إلى حركة شعبية شاملة تضر بمصالح بريطانيا. وقد كان أن أصدرت الحكومة المصرية في العام 1930 قرارا بمنع الطائرات الإيطالية المتوجهة إلى شرق إفريقيا من عبور المجال الجوي المصري، كما أنها لم تكتفِ بإلغاء جوازات سفر العمال والفنيين المصريين العاملين في القواعد العسكرية الإيطالية في شرق إفريقيا، بل إنها عوضتهم بتوظيفهم لديها.

إلا أن أعراض الحب المصري تجاه إثيوبيا لم تكن لتهدأ لمجرد تحقيق هذين المطلبين، بل انتقلت هذه الأعراض إلى الحكومة ذاتها، وقد تجلى ذلك في توجه عدد من الوزراء والسياسيين المصريين المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة بدوائر الحكم في بريطانيا، لاستخدام هذه العلاقات لدى لندن لإقناع حكومة جلالة الملك جورج الخامس بالضغط على إيطاليا لوقف تحرشها، وفيما بعد عدوانها ضد إثيوبيا. ومثال على الوزراء والساسة المصريين البارزين ممن زاروا بريطانيا خصيصا للدفاع عن قضية أثيوبيا عثمان محرم باشا.

في الوقت ذاته، شكلت الكنيسة الأرثوذكسية وفدا رفيع المستوى وعلى رأسه أحد كبار الأساقفة، كما ضم الوفد شيوخا من الأزهر الشريف، حيث توجه إلى الفاتيكان لمقابلة كرسي القاصد الرسولي، سعيا من مصر لدفع بابا الفاتيكان إلى الضغط على زعيم إيطاليا في ذلك الوقت موسوليني للكف عن مخططاته الاستعمارية في الحبشة.

وبالرغم من امتناع بابا الفاتيكان عن استقبال المصريين، فإن الوفد أصر على عدم الرحيل حتى أوفد البابا عددا من كاردينالاته للاستماع للوفد المصري وتسلم خطابا موجها للقاصد الرسولي تضمن مطالب مصر للدفاع عن إثيوبيا. وقد اتخذت الكنيسة المصرية الأرثوذكسية تلك المبادرة بالرغم من معرفتها بتاريخ محاولات الفاتيكان من خلال إرسالاته لاختطاف الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية -وكانت فرعا لكنيسة الإسكندرية المصرية- وتحويل قبلتها إلى روما.

ولا عجب، فقد كانت مؤامرة احتلال إثيوبيا مخططا لها سياسيا في مقر الحكومة الإيطالية في روما، وبمباركة المقر البابوي في نفس المدينة، إلا أن ذلك لم يوقف مصر الرسمية والدينية عن طرق هذا الباب المغلق؛ فالقضية متعلقة بمصير شعب كنا في مصر وما زلنا نحسبه شقيقا.

وعندما لم توقف هذه التحركات إيطاليا عن سعيها الشرير، وبدا أنها بصدد شن عدوانها بمجرد توقف موسم مطر عام 1935 في إثيوبيا، تطور الموقف المصري تطورا نوعيا على الصعيدين الشعبي والرسمى. ففي أغسطس/آب من العام نفسه، قام الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين -مرة ثانية ليس هناك خطأ مطبعي، فأول جهة شعبية منظمة تأخذ خطوة فعلية للدفاع عن إثيوبيا كانت جمعية الشباب المسلمين وليس المسيحيين- بتأسيس لجنة ضمت كبار رجال الدولة ورجال الدين الإسلامي والقبطي، والعديد من المتخصصين في كافة المجالات لنصرة إثيوبيا.

إلا أن ذلك لم يكن نهاية قصة حب مصر والمصريين لإثيوبيا في ذلك الوقت العصيب الذي كانت تمر به الأخيرة، وإنما كان بداية لقصة أعظم بذل فيها آلاف المصريين دماءهم دفاعا عن دولة قامت بتزوير هذا التاريخ كجزء من حملة طويلة لتبرير سياسات لا تستهدف تحقيق مصالحها فقط، وإنما لتبرير تعطيش شعب مصر الذي أحبها وضحى من أجلها!..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد