كشفت وثيقة استراتيجية سرية حصلت عليها صحيفة "فورين بوليسي" الأميركية أن مكتب مبعوث الأمم المتحدة في سوريا حذر من أن الأمم المتحدة لن تكون قادرة على متابعة أو فرض أي اتفاق للسلام قد ينتج عن المحادثات السياسية التي تجري حالياً في جنيف، وأن سوريا ستبقى مجزأة وغير مستقرة ومسلحة.
الوثيقة أثارت الكثير من المخاوف حول التوقعات والآمال غير المنطقية المعلقة على الأمم المتحدة بشأن مراقبة وتأكيد وقف إطلاق النار في الحرب الأهلية السورية التي يشارك فيها عدد غير محدود من الفصائل المسلحة والمجموعات "الإرهابية".
الطرق المحتملة لوقف إطلاق النار
كشفت الوثيقة التي تتحدث عن الطرق المحتملة لوقف إطلاق النار، والتي كتبها مبعوث الأمم المتحدة في سوريا، ستيفان دي ميستورا، أن الوضع السياسي الحالي، محلياً ودولياً، وبيئة العمليات الحالية على الأرض يجعلان من الصعب على الأمم المتحدة تطبيق عملية حفظ السلام بالاعتماد على القوات الدولية أو المراقبين العسكريين، حيث لا توجد طريقةٌ فعالة لمراقبة وقف إطلاق النار، أو بمعنى آخر، مهمة الأمم المتحدة لنشر السلام في سوريا ستكون بالغة الخطورة.
كما لا توجد علاماتٌ على رغبة الدول الكبرى في المشاركة في عملية السلام على الأراضي السورية، ثمة أيضاً حقيقةُ أن الميليشيات "المتطرفة" التي لم تدخل في مفاوضات السلام تبقى خطراً دائماً يهدد عملية السلام في سوريا، علاوةً على هذا التعقيد الجنوني في عملية وقف إطلاق النار، يشكّل جمع الجهات المتنازعة على طاولة المفاوضات تحدياً في حد ذاته.
بداية المفاوضات
وانطلقت أمس، الجمعة 29 يناير/كانون الثاني 2016، مفاوضات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة دون مشاركة أحد أهم أطراف المعارضة السورية المعروفة باسم اللجنة العليا للمفاوضات، حيث قررت اللجنةُ مقاطعة المفاوضات؛ نظراً لعدم استجابة بشار الأسد وحكومته للمطالب الرئيسية للجنة، وهي وقف القصف الجوي ورفع الحصار عن المدن.
لكن فرح أتاسي، عضوة اللجنة، قالت إن مفوضاً عن اللجنة سيلتقي دي ميستورا يوم الأحد، "ليس للتفاوض" ولكن لمناقشة جهود الأمم المتحدة والتأكد من وقف الضربات الموجهة ضد المدنيين، وفق ما نشرته وكالة أسوشيتد برس للأنباء.
وصرّح مندوب المملكة العربية السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة، عبدالله المعلمي، لصحيفة "فورين بوليسي" بأن المعارضة السورية ستكون ممثلة من خلال وفد مكوّن من 3 أعضاء، من بينهم المتحدث الرسمي باسم اللجنة العليا للمفاوضات، سالم المسلط، وأن المحادثات ستركز على تخفيف الأزمة الإنسانية في سوريا.
العضوان الآخران هما رياض نعسان آغا (وزير الثقافة السوري السابق)، ومنذر ماخوس (عضو الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة)، وأن هناك احتمالية لانضمام آخرين للمفاوضات لاحقاً.
وقف إطلاق النار
لكن حدوث وقف شامل لإطلاق النار داخل البلاد يبدو أمراً مستبعداً في الوقت الحالي؛ إذ إن حكومة الأسد المدعومة بالقوة الجوية الروسية تواصل ضرب قوى المعارضة، كما أن أعضاء المعارضة الثلاثة لا يملكون أية سلطة تمكنهم من إجبار مجموعات المقاومة على وقف إطلاق النار.
وعلى المدى القريب، يؤمن دي ميستورا بأنه يمكن التوصل لوقف إطلاق للنار في دمشق، وأنه في حال تحسن الأوضاع الأمنية على الأرض ستتمكن الأمم المتحدة من توسيع دورها في سوريا وتوفير التدريب والموارد الكافية للسكان المحليين، كما يمكنها أن تعمل كوسيط بين الأطراف السورية والقوى الدولية، إلا أنه يرى أن العبء الأكبر يقع على عاتق المقاتلين وداعميهم الدوليين المعروفين باسم مجموعة دعم سوريا المكوّنة من 17 دولة.
الحل السياسي
ووفق ما كشفته الوثيقة السرية أيضاً، يجب أن تكون هناك نقلة واضحة في الدور الذي تلعبه مجموعة الـ17 الراعية للحل السياسي في سوريا لتصبح ضامنةً للاتفاقات، فعلى المجموعة تنسيق جهود الدول الرئيسية وتوفير اتصال فعّال مع كل من الحكومة والمعارضة من أجل التوصل إلى اتفاق حقيقي لوقف إطلاق النار وتحقيق المزيد من الاتفاقات المحلية والحفاظ على الاتفاقات القائمة.
ولا ينتظر دي ميستورا نتائج فورية لمفاوضات جنيف، إلا أنه يأمل بتحقيق مفاوضات فعّالة حول وقف متسلسل لإطلاق النار في مدينة تلو الأخرى لتخفيف معاناة الشعب السوري، وهو ما يأمل أن يؤدي بدوره إلى وقف شامل لإطلاق النار فيما بعد. كما بدا دي ميستورا أقل تفاؤلاً حول رقابة دولية حقيقية على الوضع السوري في جوانب كثيرة، كانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب مثلاً.
نموذج ناجح
ربما يكون وقف إطلاق النار في الزبداني، الواقعة جنوب غربي سوريا بالقرب من الحدود اللبنانية والتي تسيطر عليها المعارضة السورية، مثالاً يحتذى به، حيث تم إجلاء الكثير من الجرحى والمصابين من المدنيين داخل المدينة بعد حصار فرضته قوات النظام على المدينة.
في المقابل، تم السماح للمقاتلين الموالين للنظام بمغادرة المدن التي تسيطر عليها الحكومة، كقريتي الفوعة وكفريا في محافظة إدلب، والتي تحاصرها قوات المعارضة. وتم السماح أيضاً للأمم المتحدة والصليب الأحمر بإدخال المعونات لهذه المناطق، رغم أن الأمم المتحدة صرّحت بأنها لم تكن كافية لتلبية احتياجات السكان بالكامل.
واجهت استراتيجية الأمم المتحدة الكثير من الانتقادات من المحللين وقوى المعارضة، التي ترى أن اتفاقات وقف إطلاق النار السابقة أعطت الفرصة لبشار الأسد لإخضاع بعض المدن من خلال سياسته التي تقوم على الحصار الكامل والتجويع، حيث تخضع 18 مدينة سورية لحصار مشدد، يتعرض فيها أكثر من نصف مليون شخص لحالة حرمان شديدة من أبسط الاحتياجات، بل والمجاعة في بعض الحالات.
وفرضت الحكومة السورية حصاراً على غالبية هؤلاء المدنيين، أي ما يقدّر بـ274,200 مدني، وذلك وفقاً لمنسق الإغاثة في الأمم المتحدة، ستيفن أوبراين. وقال أوبراين إن 200 ألف آخرين محاصرون من قِبَل "الدولة الإسلامية"، بالإضافة إلى حصار المتطرفين، بمن فيهم جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، لـ12,500 مدني في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.
اتفاقات صعبة
يقول الخبير بالشأن السوري في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات، نوح بوسني: "إن أي اتفاقات لوقف إطلاق النار تعتبر معضلة، حتى اتفاقية وقف إطلاق النار في مدينة الزبداني تمثل مشكلة".
وأضاف "يمكنك أن ترى كيف يستخدم كل جانب العقاب الجماعي ليجبر الطرف الآخر على الاستسلام. كل اتفاقية كانت تشجع المزيد من الحصار والعقاب الجماعي. السؤال المحوري هو: هل يمكن أن تتجاوز الأمم المتحدة والأطراف السورية هذا النموذج إلى نموذج أكثر استقراراً ولا يعتمد على العقاب الجماعي؟ هل توجد أية اتفاقات لا تشجع على استخدام العقاب الجماعي؟".
ومن المرجح أن تركز الحكومة السورية دبلوماسيتها على استراتيجية وقف إطلاق النار في مناطق محددة.
يقول هلال الهلال، القيادي البارز في حزب البعث وأحد مؤيدي نظام الأسد الرئيسيين، إن المتفاوضين من دمشق سيذهبون إلى جنيف للاستماع لا لتقديم أي تنازلات. وخاطب الجنود السوريين قائلاً: "نحن لن نتنازل اليوم عمّا لم نتنازل عنه طوال 5 سنوات. هذا العام سيكون عام النصر لسوريا"، وفقاً لوكالة أسوشيتد برس.
التفاوض في ساحة المعركة
وتوقع جوشوا لانديس، الخبير بالشأن السوري في جامعة أوكلاهوما، أن قوات الحكومة ستتفاوض مع المقاتلين في ساحة المعركة مباشرة، أما في جنيف فمن المرجح أن دمشق ستدين المعارضة بتهمة الإرهاب.
وحسب تقديرات مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية، جيمس كلابر، فإن المعارضة السورية تتكون من حوالي 1500 مجموعة مختلفة في اتجاهاتها السياسية. ويقول لانديس إنه "يجب التعامل مع كل واحدة من تلك المجموعات في كل مدينة، إما عن طريق القتل أو التفاوض".
ويضيف لانديس أن قوات النظام ستحذّر المتمردين المسلحين بأنهم إذا أطلقوا النار فإنهم سيكسرون اتفاقية وقف إطلاق النار، ووفقاً للانديس فإن هذا السيناريو يصب في مصلحة نظام الأسد.
في الوقت نفسه، بدأت مكاتب الأمم المتحدة لحفظ السلام والشؤون السياسية في التخطيط لتواجد قوات تابعة للأمم المتحدة في سوريا إذا سمحت الظروف الأمنية بذلك، حيث يمكن للأمم المتحدة أن تقوم بتوسيع مكتب دي ميستورا وتحويله إلى بعثة سياسية كاملة لاستكمال العمليات الجارية في جنيف.
مراقبة دولية
حددت وثيقة دي ميستورا 3 خيارات لمراقبة وقف إطلاق النار: إما تطبيق عملية مراقبة دولية مستقلة تماماً، أو الاعتماد على مراقبين محليين بدعم فني من المجتمع الدولي، أو فريق تقليدي يجمع مراقبين محليين ودوليين.
هذا الخيار الأخير من شأنه أن يوفر أعلى مستويات المصداقية، ولكنه ينطوي على مخاطر كثيرة، ويتطلب ضمانات أمنية من الجماعات المسلحة وداعميها الدوليين لحماية العملية.
ونظراً لقلق دي ميستورا بشأن الوضع الأمني، فمن غير المرجح أن يُفضِّل هذا الاختيار.
في اجتماع مغلق مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هذا الشهر قال دي ميستورا إنه "على الرغم من انشغاله بدراسة خيارات المراقبة والتحقق من اتفاقيات وقف إطلاق النار، إلا أن الإجراء النهائي سيتطلب موافقة الأطراف المتحاربة". وفقاً لملاحظات حصلت عليها صحيفة "فورين بوليسي".
التواصل مع المقاتلين
وقال دي ميستورا إنه سيبدأ في التحدث إلى المقاتلين بشأن تدابير بناء الثقة، مثل التعهّد بتجنب المستشفيات والمدارس في الهجمات، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المدن المحاصرة؛ لتخفيف معاناة المدنيين.
ولكنه اعترف بأن المستقبل المتوقع هو أن سوريا ستبقى "مجزأة، غير مستقرة ومسلحة" في المستقبل القريب. وأضاف: "في هذه الحالة سيكون نشر مراقبين دوليين لإجراء المراقبة على الأرض أمراً صعباً للغاية".
وحذّر دي ميستورا من أنه مع مرور الوقت يجب على المجتمع الدولي العمل لتعميق دوره في دعم السلام على الأرض. وأضاف: "هذا يعني أننا يجب أن نفهم ونتقبل المخاطر التي تنطوي على ذلك، ونحن مستعدون لوضع خطة واقعية".
هذا الموضوع مترجم بتصرف عن مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.