سأحدثكم اليوم حديثاً طائفياً.. اعذروني إن كان ركيكاً، فأنا لا أتقن تفاصيل مثل هذه الأحاديث، لكن على ما يبدو أن "زمان الطائفية" لم يعد واقعاً معاشاً فحسب، بل أصبح وسيكون الصبغة الأبرز لكل ما سيأتي على سوريا من ويل وثبور وعظائم الأمور، وإن من لا يتقنه يجب عليه أن يتعلمه وإلا بات خروفاً ساذجاً في عالم تحكمه غريزة القطيع المتوحش.
بداية لا أستطيع أن أخرج من جلدي، ولا أن أتنكر لكل تاريخ علاقاتي مع أصدقاء جمعتني معهم سوريا ومدينتي القامشلي، وكانوا إخوة وما زالوا، ولم تلوث علاقتنا خمس سنين عجاف من الطائفية القذرة والفرز المشبوه وشعار "الآخر" المريب الذي تم تسويقه وترسيخه لدى الناس بهدوء وبلا صخب وتلقفه الناس ليصحو خوفهم وحقدهم رويداً رويداً.
مجرد زيارة وتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي يجعلك تلعن هذه الصفحات الافتراضية التي لم تعد تقدم (في غالبيتها) إلا وجبة عَفِنة من الكراهية والتحريض والحقد والشتائم والاتهامات المتبادلة، فتجد نفسك أسيرها، فتنأى بنفسك عن هذه الحروب القذرة، وتصمت على مضض لعل لغة العقل تصحو يوماً ما، لكن ما يحدث في سوريا يعمل بإصرار، ومصنّع بمهارة لإلغاء لغة العقل، وإبقاء العبث الكوني بمصائر الناس مستمراً ومتعطشاً لمزيد من الدماء والانقسامات والأحقاد.
فيما سبق كانت المغفور لها وطيب الله ثراها (الوحدة الوطنية) خدعة على ما يبدو؛ لأنها استُخدمت كشعار على الجدران واللافتات الملونة في الشوارع، وتم العمل على تحويل هذا الشعار لواقع مُعيش بالقوة وبسياسة البدائل المخيفة والمرعبة، لذلك اكتشفنا انها كانت وهماً عندما سقطت الأقنعة وانهار الجميع غارقين في رمال الطائفية المتحركة، وبالتالي كانت (الوحدة الوطنية) خياراً شخصياً واجتماعياً لدى الكثيرين عاشوه وتعايشوا معه فلم يكن هناك عيش مشترك بل تعايش مشترك والفرق واضح وكبير ما بين المفهومين والمصطلحين.
ولمزيد من التخوين والإقصاء تم تصنيع مصطلح (الأقليات) تصنيعاً شيطانياً، فبات الجميع ينظرون لبعضهم بعضا على أنهم (أقلية)، والأقليات باتت تخوِّن بعضها بعضا، وتأكل بعضها بعضا، ولم ينتبه أحد أن الهاربين من جحيم (الوحدة الوطنية) لما خلف الحدود لم يكونوا من طيفٍ واحد، بل كانت الخطوات المتبّعة في تهجّير الجميع مدروسة بعناية فائقة ليكتمل التغيير الديمغرافي في سوريا ويصبح الجميع أقليات متناثرة هناك وهناك لا يجمعها سوى الخلافات والنزاعات والأحقاد وظلال الدماء المُراقة على الأرض السورية منذ خمس سنوات مضت.
وفي خضم هذه التغييرات أصبح الصراع على الهوية على أشده، وباتت الهوية الطائفية والمذهبية هي طوق النجاة، ولم يبقَ من الهوية السورية سِوى شعارات وأقوال وحكم مأثورة ظهرت قبل سنوات واضمحلت وتلاشت حتى تكاد تندثر لغير رجعة.
هكذا ووسط فوضى الأقليات لم يبقَ سِوى أقلية واحدة تتضاءل يوماً إثر آخر هي (الأقلية السورية)، والتي يحمل صفاتها كل من نجا بنفسه من أوزار الطائفية والمذهبية والإثنية والحزبية والقومية.
وللحديث صلة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.