اليوم هو ذكرى طلاقي الثامنة، تلك الذكرى السعيدة التي أحتفل بها ولو كره الآخرون، ثماني سنوات غيرت حياتي، لم أكن أعلم أنني سأحتاج فقط هذه السنين حتى أرى نفسي، بينما بقيت سنوات أطول قبلها لا أرى نفسي إلا في مرآتي، كان قرارا يساوي حياة، وكانت حياة لا تساوي شيئاً، فكرت طويلا قبل أن أحسم أمري، حتى وصلت إلى قناعه سكنت قلبي "هل أشتري رضا نفسي بسخط الدنيا، أم أشتري ضياعي برضاها؟" وما أن استقرت الإجابة في نفسي حتى أتخذت قراري، أنه الطلاق ولا شيء غيره، كنت أعلم جيدا منذ عزمت أمري على الطلاق أنني سوف أستبدل أظافري بمخالب النمر، وألبس ثياب محارب لا ثياب امرأة، لكني قبلت ورضيت، فليس عندي ما هو أثمن من حياتي لأحارب من أجلها، طلبت الطلاق وبعد سنة تقريبا حصلت عليه، كانت سنة صعبة في زواج أصعب، لن أتحدث طويلا عنه فقد وضعت بيدي نقطة النهاية، وكتبت نهايته وأغلق الكتاب نهائيًّا.
لم يلقَ الحزن في نفسي مكان قط بعكس كثير من مثيلاتي، راهن الجميع وأولهم طليقي أنها ما هي إلا بضعة أشهر وسأعود مكسورة مهزومة نادمة على ما طلبت، أما أنا فقد أقسمت على أنه لا عودة أبدا، لقد أحرقت قواربي فلا وقت عندي للحزن، إما أن أنجح و إما أن أنجح لا ثالث لهما، ولأول مرة منذ عشر سنوات أخرجت شهادتي من بين كراكيب كثيرة ومسحت عنها غبارها، نظرت إليها طويلا وكأني أقول لها "ضيعتك وضيعت نفسي".
ذهبت إلى صديقة أعرفها منذ كنا طالبات في كلية الهندسة بالجامعة، لقد كانت وما زالت الأقرب إليَّ، إنها تملك مكتب هندسي خاصًّا بها له سمعة طيبة، عرضت عليها أن أتدرب في المكتب لأستعيد ما قد نسيته منذ تخرجي وبدون راتب، إلى أن أصبح قادرة على العمل، ولأنها كانت أكثر الناس دراية بحالي قبل الطلاق وبعده، ولعلمها بشدة حاجتي للمال، لم تتردد ثانية واحدة بل قبلت مباشرة وأصرت على أن تكون ساعات التدريب مقابل راتب شهري.
كنت أعمل وأعمل وأعمل، حتى يذكرني بدني بأنه يحتاج إلى الراحة، وكأني أسابق الزمن، بدأت أتحول من امرأة لا تعرف شيئا لامرأة تعلم الكثير وتبحث عن الأكثر. وبأقل من الثلاثة أشهر أصبحت بعكس ما أمسيت، امرأة مختلفة في كل شيء، اختصرت سنين في بضعة أشهر فقط، أخيرا استرجعت كثيرا مما ضاع مني، تدربت بما فيه الكفاية وبدأت العمل كمهندسة في المكتب، أو بالأحرى كثلاث مهندسات، كانت ساعات عملي ثماني ساعات، إلا أني كنت أعمل أكثر من ثلاث عشرة ساعة، كنت أول من يتواجد في المكتب وآخر من ينصرف منه، بالإضافة إلى استكمال ما يمكن استكمال في المنزل، كانت إنجازاتي سريعة ومتقنة، لم يوجه لي أي مخالفة أو حتى ملاحظة في العمل، بل على العكس تماما كنت على الدوام في حلقة التطوير والتجديد، ضاعفت صديقتي راتبي فلم يكن جهدي الإضافي خافيا على أحد، حتى أنها كانت تناديني دائما "الدينمو" فأجيبها مداعبة لها "وأنتِ وردة"، وبالرغم من أن العمل كان متعبا وطويلا، إلا أن سعادتي وعزيمتي كانتا كافيتين لتحويله إلى أجمل متع حياتي فأشعر وكأن لي جناحين، أطير ولا أمشي.
مضت ثلاث سنوات كنت كالنحلة في عمل دؤوب مستمر لا أكلُّ ولا أملُّ، وفي يوم من الأيام استدعتني صديقتي إلى مكتبها للحديث معي في أمر ما، ولما حضرت أخبرتني أنه قد طلب منها أحد عملاء المكتب المهمين أن تترأس مكتبا جديدا سوف يتم إنشاؤه للإشراف على عدة مشاريع هندسية يملكها، ولأنها لا تستطيع ترك مكتبها وقبول العرض المقدم لها فقد رشحت اسمي له كأفضل مهندسة تستطيع أن تنوب عنها، وبالرغم من أن صديقتي كانت شديدة التمسك بي إلا أنها وللأمانة شجعتني لقبول العرض لثقتها بأنه عرض ممتاز من الصعب رفضه من جهة، ولعلمها بواقع حاجتي لدخل شهري أفضل.
بعد تفكير طويل وتردد أطول قبلت العرض، ولكني اشترطت بقائي في مكتب صديقتي حتى إنهاء كل الأعمال الهندسية التي كانت تحت يدي، وبالفعل وزعت أيام العمل بواقع أربعة أيام في المكتب الجديد الذي كنت أترأسه، ويومين في مكتب صديقتي حتى سلمت مشاريعي كاملة.
مضت أربع سنوات أخرى، وقد أنهى المكتب جميع المشاريع التي أسس من أجلها على أفضل ما يكون، وبدأ التعاقد على مشاريع جديدة أكبر وأضخم، إلا أنني توقفت قليلا لأسأل نفسي سؤالا.. هل حان الوقت لإنشاء مكتب هندسي خاص بي؟ هل أستطيع أن أخطو هذه الخطوه الآن أم ما زلت أحتاج كثيرا من الوقت؟ توكلت على الله وعزم أمري على أنشائه، وفعلا حصلت على قرضين من بنكين مختلفين، واخترت مكتبا مناسبا لهذا وجهزته بأفضل ما يمكن، اخترت عددا من المهندسين الأكفاء، وبدأت بإدارة مكتبي الهندسي الجديد بأربع وكالات هندسية ممتازة، كانت بداية أقل ما يقال عنها أنها رائعة، وبعد سنة من إنشائه استطعت أن أسدد جميع قروضي البنكية، إنجاز ما كنت لأصله لولا أن الله وفقني إليه، ولأن أجمل ما قد يحصل عليه الإنسان في حياته هو تحقيق أحلامه ما زلت أحلم، اليوم أرفع القبعة تحية من نفسي لنفسي.
نعم.. قد تكون أولى درجات النجاح فشلا، وقد تنبت الأزهار في أرض بور، وقد تصبح أفضل شيء من لا شيء!