تلعب المراكز البحثية دورا مهما في تشكيل الوعي ورسم ملامح واضحة للقرار السياسي، ولقد أصبحت هذه المراكز منتجا حضاريا يعكس مدى تطور الدول واهتمام قيادتها السياسية بوضع أسس علمية لقراراتها بعيدا عن العشوائية والعبثية غير المدروسة، ولقد خرجت هذه المراكز في البداية من رحم الجامعات والمعاهد البحثية، لتتطور بعد ذلك على شكل هيئات مستقلة لها مخصصاتها وهيكلتها وأطرها التنظيمية والمالية المستقلة، ولقد تحولت المراكز البحثية في عصرنا الحالي إلى منجز حضاري يشكل مرآة تعكس اهتمام الأمم والشعوب بالعلم والمعرفة واستشراف المستقبل وفق أسس علمية ومعرفية صارمة، كما تعكس توجه الشعوب والأمم نحو حفظ تراثها ومنجزاتها الحضارية والمعرفية، على أساس أن الممارسة الواعية بالتحولات الحاصلة في أي مجتمع، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا هي الضمانة الأكيدة لوضع تصورات واضحة تجنب الانزلاق في مطبات العشوائية والتخبط الأعمى في دروب غير محددة..
ولقد شكلت التجربة الغربية، الأميركية والأوروبية، في مجال إنشاء المراكز البحثية النموذج الأبرز والأكثر حضورا، حيث لعبت هذه المراكز، وما زالت تلعب دورا حاسما في رسم السياسات ودعم صناع القرار وتوجيه دفة الحكم وفق منهج علمي صارم، وقد لا يتفاجأ العالمون ببواطن الأمور إذا أدركوا أن أغلب الأحداث العالمية التي تجري أحداثها حاليا، سبق أن تم التنبؤ بها ورسم سيناريوهاتها في دهاليز المراكز البحثية الشهيرة..
ورغم الأهمية القصوى للمراكز البحثية ودورها المحوري في عملية التنمية وصناعة القرار السياسي، إلا أن العالم العربي ظل غائبا عن هذا المجال، غارقا في فوضوية وعشوائية القرارات بعيدا عن التخطيط والدراسة الواعية، إلى أن جاءت السنوات العشرون الماضية حيث بدأت تبرز في العالم العربي بعض التجارب الجادة في هذا الإطار، وشكلت دول الخليج القاطرة الأولى على هذا الصعيد، فنشأت مراكز بحثية في أبوظبي ودبي والدوحة والرياض والكويت، حاولت أن تسترشد بالتجربة الغربية في هذا المجال، وتجاوزت بفارق كبير التجارب العربية السابقة لها مثل تجربة مصر التي قد يكون التخلف التنموي والبيروقراطية أعاقا مراكزها البحثية عن الاضطلاع بالأدوار المطلوبة، وتجربة لبنان التي كان يمكن أن تشكل استثناء بسبب منسوب الحرية العالي في هذا البلد، لولا عوائق الطائفية والحروب الأهلية والهجمات الإسرائيلية المتكررة.
وبقدر ما لعبت الطفرة المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط في السنوات الماضية دورا مهما في توفير الموارد المالية اللازمة الكفيلة بجعل المراكز البحثية الخليجية تقوم بمهامها بشكل قوي، إلا أن الإرادة السياسية لعبت الدور الأهم في حماية بعض المراكز البحثية الخليجية وتمكينها من أداء مهمتها العلمية على الوجه المطلوب بعيدا عن الوصاية الفجة والتوجيه السياسي، ومع الإشارة إلى وجود تجارب خليجية ناصعة في مجال المراكز البحثية، إلا أن تجربة أبوظبي في هذا السياق تشكل علامة فارقة، فوسط هذه العاصمة الخليجية المتطلعة لوضع بصمتها الخاصة على المشهد السياسي والفكري في العالم العربي، يتربع مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية الذي شكل على مدى عشرين سنة منارة للبحث العلمي وفضاء استثنائيا لصناعة الفكر ودعم صناعة القرار السياسي وفق أسس علمية واضحة وسليمة..
إن الاستثمار في صناعة الفكر والبحث العلمي والاستهداء بمنارات بحثية جادة هو طريقنا الوحيد نحو مستقبل مشرق، وهو فريضتنا الكبرى التي غيبناها طويلا، وما لم نسع جادين لإعادتها، فإن سيرنا نحو المستقبل سيظل بطيئا ومتلكئا ومترعا بالعثرات والخيبات والنكوص..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.