إذا كانت الأخلاق نتاجًا اجتماعيًّا، تنبثق عن المجتمع وتظهر على شكل مواقف وآراء ومبادئ، فمهما كانت مرجعيتها يجب أن تتقيد بأخلاق تظهر درجة وعيها. بوسعي أن أقول إن الأخلاق كخصلة، ليست هبة من أحد كما أنها ليست فطرية مغروسة في الإنسان منذ الولادة، بل إنها صناعة اجتماعية تربوية محضة.
فعندما يتعلق الأمر بتضارب في الآراء والمواقف هنا يثبت الشخص مدى حسن أو سوء أخلاقه، وخصوصا إن كان تضارب موقفين سياسيين، فالسياسة الحقيقية لا يمكنها أبدا أن تتقدم دون أن تكرم الأخلاق، و كما يقول الفيلسوف "كانط" فعلى السياسة أن تحترم الأخلاق لترقى إلى درجة الكمال أو "اللمعان الدائم"، صحيح أن الكمال ليس رديفا لوجود الإنسان، لكن البحث عنه من شيم عظماء الأخلاق، كما أن أرسطو لم يفصل -كما نفعل نحن الآن- بين السياسي والأخلاقي في رسالته "حول الحكومة" كقسم تالٍ ومباشر للأخلاق، وكأنه يشير إلى شدة التلازم بينهما، ومن هنا تتضح قوة الترابط بين السياسة والأخلاق عند عظماء الفلاسفة.
فالقول بين السياسة والأخلاق ينقسم بين طرفين: بين الوصل بينهما أو الفصل، فحين يتحقق الوصل تكون النتيجة راقية ولو كانت المواقف متضادة، فيكمن هذا الرقي الأخلاقي في التحلي بمبادئ أخلاقية محضة، كالاحترام مثلا. أليست الدول التي راهنت على رقي الأخلاق واحترام الإنسان هي الدول المتقدمة اليوم والتي تقدمت بالأمس؟ لكن حين يتحقق الفصل بين السياسة والأخلاق يكون الانحطاط والانعدام التام للرقي وليد هذا الفصل، كما يحصل تماما في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
فالأجدر بالمسلم السياسي أن يكون راقيا في مواقفه ساميا في مبادئه وآرائه، كما تنتظر منه المجتمعات الأخرى أن يكون، كيف لا؟ والإسلام أول من رفع راية الأخلاق السامية والمبادئ الراقية، كيف لا؟ وقد بُعث رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام ليتمم علينا مكارم الأخلاق، فبهذه الكلمات حدد الرسول الكريم الغاية من بعثته أنه يريد للبشرية أن تتعامل بقانون الخلق الحسن الذي ليس فوقه قانون، فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق والآداب التي حث عليها الإسلام والتي ذكرت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة اقتداء بنبينا محمد الذي هو أكمل البشر خلقا لقول الله تعالى عنه: "وإنك لعلى خلق عظيم".
فأين نحن من الصدق والحلم والأناة والمروءة والإحسان والرفق والعفة والعفو والسماحة؟ أين نحن منك يا رسول الله؟
وإنه مما يتنافى مع روح السماحة أن تقع شخصيات مسلمة كالكتاب والدعاة في جدالات تافهة لأمور سياسية مثلا، فينقلبوا إلى مسلمي كلام بدل مسلمي عمل ويضيعوا الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد وكثرة القيل والقال، بل وعوض أن يكونوا قدوة حسنة يصيرون فرجة على مرأى ومسمع الصالح والطالح، فيصبح الناس متتبعين لمسرحية هزلية ذات مرجعية إسلامية، الأخلاق فيها تحتضر، فأصبحنا نتابع ردودهم وكأننا على الأرصفة.. تلك الردود التي لا تمت للمسلم الحقيقي بصلة.
فحين يغيب الضمير الأخلاقي في حقل الحوار والنقاش والرأي والرأي الآخر، يكون الدافع هو البحث عن تحقيق أعلى درجات الكسب كالقوة والمصلحة والمنفعة، فيصبح كل منهم مقاتلا لنصرة موقفه مضحيا بالغالي والنفيس. ولئن كان أمراء القرون الوسطى قد وصفوا حروبهم بأنها "حروب الحق مع الباطل" فإن المسلم اليوم فعل نفس الشيء ولكن من أجل المصلحة، فخلال اختلاف آرائهم يتم التجرد من مبادئ الأخلاق وشيم المسلم الحقيقي والإيمان المطلق أن لا حياة إلا للأقوى، فما لبثوا أن أدخلونا الغابة مرة أخرى، ولكن من بابها الخلفي هذه المرة وتحت لواء الإسلام، فعادوا بنا إلى شريعة الغاب من جديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.