زيارة لتاريخ مصري مهجور في إثيوبيا
ما زلنا لم نغادر القاعة التي احتضنت تلك الندوة التي عقدت في صيف عام 2004 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا والتي جاء نصفها الأول أقرب ما يكون إلى محاكمة لتاريخ وحاضر مصر من جانب عدد من كبار الصحفيين والمثقفين الإثيوبيين. دارت الاتهامات حول أن مصر دائما كان لديها نظرة وتعامل فوقي مع إثيوبيا يختلط بقدر كبير من الطموحات الإمبريالية، التي دائما ما وقفت حجر عثرة أمام تحقيق مصالح أديس أبابا. وقد اتبعت في ردي على هذه الأباطيل أسلوباً -أظنه كان شديد الفاعلية- بأن أقررت للحضور الاتهام الرئيس الذين ساقوه من سلوك إمبريالي لمصر، وبدأت في عرض -ما ظنوه في البداية- أدلة على ذلك، لكي يفاجأوا فيما بعد بحقائق تاريخية موثقة تثبت مدى نبل مصر في تعاملها مع إثيوبيا..
وكانت البداية بعرض وثائق قيام مصر بإنشاء أول اقتصاد عصري في البلاد -إثيوبيا- أخرجها من ظلام التخلف والفقر والجهل إلى نور القرن العشرين بقيام البنك الأهلي المصري بتأسيس فرع له تحت اسم بنك الحبشة، والذي أقام اقتصادا إثيوبيا من العدم، وذلك قبل أن تسلمه مصر هدية للإثيوبيين في العام 1931.
والحقيقة أن حديثي عن مبادرة مصر في بداية القرن العشرين بالتقدم طواعية للأخذ بيد شقيقة الجوار المباشر -في ذلك الوقت إثيوبيا- دفع الحضور أن يستحثوني على مواصلة الحديث. وقد كان لرد الفعل الإيجابي من جانب الإخوة الإثيوبيين لما أوردته من تاريخ مصري باهر وموثق مع بلادهم أثرا قويا في تحفيزي على المضي قدما في تصحيح نسخة التاريخ المزورة لديهم..
قبل أن أستأنف مرافعتي دفاعا عن وطني مصر، طرح أحد الحضور ما ظنه دليلا على استعلاء مصر وتعاملها مع بلاده بمنطق فوقي. قال الرجل متحديا: "كيف يستقيم ما ترمي إليه، في حين أن مصر لم تستقبل حاكما إثيوبيا على أراضيها، ناهيك عن كونها لم توجه الدعوة لأي منهم؟".
وقد كشف السؤال عن مزيج من الجهل، ناهيك عن جهد منظم من جانب السلطة الإثيوبية لتغييب التاريخ الحقيقي المشرف لمصر مع أديس أبابا، بالإضافة -وهو الأخطر- إلى تقصيرنا في مصر في إظهار الصورة الحقيقية لما كانت عليه العلاقات بين الجانبين، وخاصة من جانب القاهرة.
وجاء الرد هكذا: "باستسثناء منجستو هيلاماريام، ذلك العسكري الذي شارك في انقلاب شيوعي ضد الإمبراطور هيلاسلاسي في العام 1974 لكي ينفرد بالسلطة في العام 1977 وحتى هزيمته على يد التمرد المسلح في البلاد وفراره في العام 1991 إلى منفاه الاختياري في زيمبابوي، فإن جميع حكام إثيوبيا زاروا مصر مرارا. وقد جاء امتناع مصر عن دعوة منجستو بناء على موقفها المؤيد للشعب الإثيوبي الذي كان يعاني الويلات على يد الطاغية العسكري".
واستأنفت مخاطبا الحضور: "لا شك والحال كذلك أنكم لا تعلمون -على سبيل المثال وليس الحصر- تلك الزيارة التاريخية التي قامت بها الأميرة مينين زوجة ولي العهد الإثيوبي راس تفري ماكونين -الإمبراطور هيلاسيلاسي فيما بعد- لمصر في العام 1923 وهي الزيارة التي لاقت حفاوة شعبية ورسمية غير مسبوقة، بالرغم من كونها زوجة ولي العهد وليس الإمبراطور. وقد وصلت هذه الحفاوة إلى قمتها خلال زيارة ولي العهد في عام 1924 لدرجة أن جموع الشعب المصري كادت أن تحمل السيارة التي كانت تقله إلى مقر إقامته في فندق شيبرد المطل على نيل القاهرة، وقد تكرر هذا المشهد الشعبي في كل مدينة زارها الراحل العظيم بداية من الإسكندرية شمالا إلى أسوان جنوبا، ومن دون أية ترتيبات رسمية. وقد كانت تلك الزيارة مقدمة لزيارات كثيرة للراحل الكبير بعد أن اعتلى عرش الحكم في بلاده".
وأضفت متسائلا: "هل يعلم الإخوة الإثيوبيون أن الملك فؤاد حاكم مصر في ذلك الوقت حرص -خلافا لقواعد البروتوكول- على استقبال ولي العهد الإثيوبي شخصيا وعلى أن يمنحه أعلى الأوسمة في الدولة المصرية وهو الوشاح الأكبر من نيشان محمد علي، وهو جد ملك مصر في ذلك الوقت ومؤسس مصر الحديثة، في حين منح ولي العهد نيابة عن الإمبراطورة زوديتو الملك فؤاد الوشاح الأكبر من نيشان سليمان، أعلى الأوسمة الإثيوبية في ذلك الوقت؟". طرحت السؤال وأنا أعلم أنه لا المناهج الدراسية ولا الإعلام في إثيوبيا يذكرون هذا التاريخ لأجيالهم، وهو نفس الموقف المؤسف الذي اتخذناه في مصر بإنكار تاريخنا المشرف، وكأن علاقاتنا مع إثيوبيا بدأت فقط منذ يوليو/تموز في العام 1952 وليس أن تاريخ مصر فيما بعد يوليو/تموز 52 هو امتداد لما قبله.
أردفت السؤال السابق بآخر: "هل يعلم إخوتنا في إثيوبيا أن قيادات الأزهر الشريف احتجوا على استئثار المزارات القبطية بزيارات الراحل الجليل راس تفري ماكونين -الإمبراطور هيلاسلاسي فيما بعد- من منطلق رغبتهم في الترحيب بالرجل الذي قام أحد أجداده بإجارة المسلمين الأوائل الفارين بدينهم من اضطهاد قريش في الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي؟".
"وهل قرأ إخواننا في إثيوبيا بعضا مما سجله فرج ميخائيل موسى السكرتير الثاني لمفوضيتنا في ألمانيا في مذكراته، عندما أبلغ بتكليفه أن يكون أول قنصل لمصر في أديس أبابا في العام 1929؟ هل يعلم الإخوة في إثيوبيا أن أول دبلوماسي مصري في بلادهم كاد أن يطير فرحا بانتقاله من أوروبا إلى بلادهم، وهي الفرحة التي تحولت إلى حالة عشق وهيام وشت بها تقاريره المرسلة لوزارة الخارجية، ناهيك عن مذكراته الشخصية؟ وهل يدرك الإثيوبيون أن هذا الحب التي عاشه أول قنصل مصري في بلادهم، مثل حالة عامة لغالبية الدبلوماسيين المصريين الذين تعاقبوا في ذلك الزمان على بلادهم، ولدرجة دفعتهم للتوصية بإلحاح بضرورة تدريس اللغة الإمهرية ضمن مرحلة التعليم الأساسي في مصر، وهي التوصية التي أُخذ بها -للأسف- فقط وبشكل متخصص في التعليم الجامعي؟".
للأسف، فإنه لا الإثيوبيون، ولا حتى المصريون يدركون هذه الحقائق التي تؤكد -كنموذج حي وعملي- أن مصر لم ولن تقف في وجه المصالح الاقتصادية الإثيوبية، وإنما العكس هو الصحيح، وبالأدلة الموثقة. في الوقت ذاته، فإن مصر لم تكن ولن تكون دولة إمبريالية تتعلق بميراث استعماري، وهو ما سنثبته موثقا في المقال القادم، والذي سيضم العديد من الوقائع التي تعكس حبا فياضا، دائما ما جرى من الشمال إلى الجنوب، والذي تجاوز في قوته شدة تدفق نهر النيل من الجنوب إلى الشمال، فإلى قصة حب وفداء تجسدت بأعظم معانيها خلال العدون الإيطالي الغاشم ضد إثيوبيا في ثلاثينيات القرن العشرين..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.