“كنت مخطئاً تماماً”.. علاء عبد الفتاح: بعد 5 سنوات من الثورة “فقدت القدرة على الكلام”

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/24 الساعة 15:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/24 الساعة 15:00 بتوقيت غرينتش

تحدّث الناشط المصري علاء عبد الفتاح من داخل زنزانة سجنه عن الربيع المصري بعد 5 سنوات، وقال إن الحلم والأمل الذي بدأ في ميدان التحرير حطم حاجز الخوف عند المصريين وقهر اليأس من الغد المقبل، ولكنه بدا حزيناً على ما وصلت إليه ثورة المصريين اليوم.

عبد الفتاح الذي يقضي عقوبة السجن 5 سنوات في سجن طرة بتهمة خرق قانون التظاهر، قال في مقال له بصحيفة الغارديان السبت 23 يناير/كانون الثاني 2016، "إن الكلمات الوحيدة التي يمكنني كتابتها اليوم هي عن فقداني القدرة على الكلام".

وأضاف "لم يعد لدي ما أقوله، لا آمال أو أحلام أو مخاوف أو تحذيرات.. لا شيء بالفعل".

وتابع "إلا أن هناك شيئاً واحداً أتذكره، شيء وحيد أعرفه: أن إحساس الأمل ذاك كان حقيقياً. ربما يكون من السذاجة أن نعتقد بأن أحلامنا يمكن أن تتحقق، إلا أنه لم يكن من الغباء أبداً أن نؤمن أن بإمكاننا خلق عالم جديد. لقد كان كذلك، أو على الأقل، هكذا أتذكر".

وإلى نص المقال

"كنت مخطئا".. كُتَاب ومفكرون يتحدثون عن الربيع العربي بعد 5 سنوات

منذ خمسة سنوات، في آخر يوم عادي في حياتي الطبيعية، جلست على مكتبي في شركة تقنية صغيرة في بريتوريا (جنوب أفريقيا) وتظاهرت بالعمل بينما كنت أكتب مقالاً قصيراً لصحيفة الغارديان. كان موضوع المقال هو لماذا يجب أن تُؤخَذ الثورة المصرية على محمل الجد، أو على الأقل هذا ما أتذكره. لا أستطيع العثور على هذا المقال الآن، فقد مر أكثر من عام على آخر مرة استخدمت فيها الإنترنت. في مصر، لا يسمح للسجناء حتى بإجراء مكالمات هاتفية، إلا إنني لا يجب أن أشكو من ذلك، فعلى الأقل أستطيع رؤية أسرتي مرتين أو ثلاثة مرات في كل شهر، في حين يعاني غيري من السجناء السياسيين (أغلبهم من الإسلاميين) من عدم السماح بالزيارات على الإطلاق.

في ذاك اليوم قبل خمسة سنوات، شاركت لأول مرة في معركة حول سرد أحداث الثورة، لقد استهلكتني تلك المعركة تماماً على مدى 4 سنوات متوالية، ولكن في ذلك اليوم لم أكن متأكداً أن هناك ثورة تحدث في مصر، كنت خائفاً من أن تتبدد تدريجياً حتى عندما كنت أكتب عن الشكل الجديد من الحركة الشبابية العربية.

ربما تطلب الأمر مني يوماً آخر لأقتنع بشكل كامل أن ما يحدث في مصر هو حقيقة، وثلاثة أيام أخرى لأعود إلى القاهرة وأنضم إلى متظاهري التحرير. وقتها، انتقلت من مرحلة الشك في قيام ثورة حقيقية إلى مرحلة الخوف من أن لا أتمكن من اللحاق بالركب وعدم معايشة الحدث.

عقب سقوط حسني مبارك، أصبحت معركة سرد أحداث الثورة هي الأمر الأهم. لقد أجبرت الدولة على المساومة مع الثورة أثناء محاولة احتوائها عن طريق الاستيلاء على حكايتها. تحدثنا تفصيليلاً عن الأسباب التي دفعتنا للإستمرار في التظاهر ولماذا تظاهرنا من الأساس.

هل الشباب الذين يلقون الحجارة على قوات الشرطة ثوريون أم مخربون ؟ هل يحتسب السجناء الذين ماتوا نتيجة أعمال الشغب في السجون من شهداء الثورة أم لا؟ ما هو دور الجيش في نظام مبارك؟ هل يجب أن يكون التعليم الجامعي مجانياً كما هو؟ هل نحن بحاجة إلى دستور جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن المفترض أن يقوم بكتابته؟ وغيرها من الأسئلة. لقد كتبت كثيراً، أغلب ما كتبته كان بالعربية على مواقع التواصل الاجتماعي، وكتبت في بعض الأحيان لصحف قومية تصدر يومياً.

كنت أخاطب بما أكتبه رفقاء الثورة بشكل أساسي ومع الوقت أصبحت أكثر حذراً، وكانت مواضيعي هي كم كانت اللحظة الثورية ضعيفة حينها وكيف كان وضع الثورة مقلقلاً ومحفوفاً بالمخاطر. رغم ذلك، لم أتمكن من التخلص من ذلك الشعور بالأمل وإمكانية تحقق الحلم، فعلى الرغم من كل النكسات والانتكاسات، واصلت أحلامنا في التحليق عالياً أكثر وأكثر.

تحدث الكثيرون عن حاجز الخوف، إلا أن ذلك الحاجز كان دائماً بالنسبة لي هو حاجز اليأس، وبمجرد أن تتخلص منه، لن يستطيع الخوف أو القتل أو السجن إعادته، سينتهي ذلك الخوف للأبد. لقد قمت بكل السخافات التي قام بها كل أصحاب الثورات المفرطون في التفاؤل، عدت إلى مصر بشكل دائم وأنجبت طفلة وبدأت شركة صغيرة وشاركت في سلسلة من المبادرات التقدمية أملاً في المزيد من الديموقراطية والمشاركة وإنهاء القوانين والقواعد المجتمعية الرجعية، حتى أنني دخلت السجن مبتسماً وخرجت منه منتصراً.

في 2013، بدأنا نخسر معركتنا الثورية لصالح عملية إستقطاب قاتلة بين طرفين، أولهما العسكرة العنيفة للدولة التي تبنت نموذجاً زائفاً للعلمانية وثانيهما الصيغة الطائفية المهووسة للإسلاموية. كل ما أذكره عن 2013 هو كيف بدأت أصرخ بشدة لإخبار الجميع أن الكارثة القادمة لن ترحم أحداً، كنت متذمراً وميلودرامياً إلى أبعد الحدود، شعرت بأن هناك ناراً ستحرق الجميع في حين لا أحد يسمع على الإطلاق.

امتلأت الشوارع بمتظاهرين يرفعون ضباط الشرطة على أكتافهم بدلاً من أن يرفعوا صور ضحايا بطش الشرطة، كانت الاعتصامات مليئة بالهتافات ضد الشيعة، وازدهرت نظريات المؤامرة حول الأقباط. فقدت كلماتي كل قوتها أمام مظاهرات الجانبين، إلا أنها لم تتوقف عن التدفق. لازال لدي صوت، حتى ولو لم يسمعني سوى القليل.

بعد ذلك، قررت الدولة إنهاء ذلك الصراع بارتكاب أكبر جريمة بحق الإنسانية في تاريخ الجمهورية. عادت كل حواجز الخوف واليأس تماماً بعد مجزرة رابعة، لتبدأ في ذلك الوقت معركة جديدة وفصل جديد من حكاية الثورة: إقناع غير الإسلاميين على الاعتراف بحدوث تلك المجزرة ليرفضوا العنف الذي ارتكب باسمهم.
بعد ثلاثة أشهر من المجزرة دخلت السجن مجدداً، وهنا بدأت كتاباتي تأخذ دوراً آخر. دعوت الثوار إلى تقبل الهزيمة، التخلي عن تفاؤلهم الذي أصبح خطراً في تشجيعه على اختيار أحد الطرفين: انتصار العسكر أو الإصرار على المقاومة غير المنطقية على تغيير كامل للنظام. كل ما احتجنا إليه هو تجميع قوانا بشكل رئيسي وتوجيهها للدفاع عن حقوق الإنسان.

اعترافي بالهزيمة كان لأننا فقدنا لغة الثورة، واستبدلناها بمزيج خطيرٍ من اللغة القومية، الوطنية والجمعية ما بعد الاستعمارية التي تبناها طرفا الصراع، والتي استخدمت لنشر نظريات المؤامرة المعقدة والبارانويا.

في بداية 2014، كانت لا تزال مطالبة الثوار بالمشاركة في حملة حقوق مكرسة لإلغاء قانون التظاهر والمطالبة بإطلاق المسجونين السياسيين أمراً مثيراً للجدل. كان معظم الناس يعتقدون أن الثورة مازالت تنتصر (حيث كان معنى الانتصار بالنسبة لهم هو هزيمة أو انتصار الإخوان المسلمين)، وكانت فكرة أن دولة الطوارئ هي التي ستحكم مرفوضةً من قبل الأغلبية.

اليوم، يبدو أننا نجحنا في تلك المعركة الأخيرة، إذ أن مؤيدي الدولة والنظام يقلون تدريجياً خصوصاً بين الشباب. لا يختلف الكثيرون حالياً على توصيف ما حدث في صيف 2013، في حين فقدت جدلية الثورة والإنقلاب معناها مع مرور الوقت، حتى مؤيدو السيسي أنفسهم لا يؤمنون بازدهار وشيك. من الأصعب الآن قياس وضع الإسلاميين: يزداد التعاطف معهم بسبب الظلم الواقع عليهم، إلا أن الثقةَ في قدرتهم علي تنظيم جبهة موحدة وفعالة في مواجهة النظام ضعيفةٌ. اليأس مهيمن.

قضيت معظم عام 2014 في السجن، وكان لا يزال لدي الكثير لأقوله. تضاءل جمهوري كثيراً، رسالتي لم تعد رسالة أمل على الإطلاق، لكن كان من الضروري تذكير الناس أنه رغم اعترافنا بالهزيمة، لا زال بإمكاننا المقاومة، أن العودة إلى الهوامش التي قاتلنا من أجلها في عهد مبارك كانت مقبولة ما دمنا مستمرين في الكفاح من أجل حقوق الإنسان الأساسية.

مع بداية 2015، حين سمعت الحكم الذي صدر بحقي، لم يعد لدي ما أقوله للناس، كل ما قمت بكتابته كان رسائل شخصية. الثورة، ومصر ذاتها ستبدأ بالاختفاء ببطء من تلك الخطابات أيضاً، وبحلول خريف 2015 حتى تلك الكلمات الشخصية ذاتها نضبت، فقد مضت عدة أشهر منذ آخر مرة كتبت فيها رسالة وأكثر من عام على آخر مقالٍ لي.

لم يعد لدي ما أقوله، لا آمال أو أحلام أو مخاوف أو تحذيرات .. لا شيء بالفعل. أحاول أن أتذكر ما كتبته للغارديان قبل خمس سنوات، في آخر يوم طبيعي في حياتي، أحاول تخيل من قرأ ذلك المقال وكيف أثر فيهم، أحاول أن أتذكر كيف كانت تبدو الحياة مع غد مليء بالأمل، وحين كانت كلماتي تحدث تأثيراً في شكل المستقبل القادم.

لا أستطيع حقيقةً أن أتذكر أي شيء من ذلك، سيكون الغد مثل اليوم والأمس وكل الأيام الماضية والقادمة، كلها متشابهة تماماً. لا أستطيع التأثير في أي شيء.

إلا أن هناك شيئاً واحداً أتذكره، شيء وحيد أعرفه: أن إحساس الأمل ذاك كان حقيقياً. ربما يكون من السذاجة أن نعتقد بأن أحلامنا يمكن أن تتحقق، إلا أنه لم يكن من الغباء أبداً أن نؤمن أن بإمكاننا خلق عالم جديد. لقد كان كذلك، أو على الأقل، هكذا أتذكر.

تحميل المزيد