لطالما كنتُ من أولئك الأشخاص الذين يضيقون ذرعا بدردشات غرف الانتظار بمكان عملي، يسمونها غرفة "الاستراحة " تلطّفا، وأجد فيها سآمة الانتظار وملله، بل جربت الهروب منها مرات كثيرة وإجبار نفسي علي تقبلها مرات أكثر.
وفشلت كل محاولاتي لأن أجد فيها متعة المحادثة والتآلف مع زملائي، عدا المرات القليلة التي تجمعني فيها صدف التوقيت مع أصدقائي ذوي النمط الخاص والمفضل عندي، كنت أفضل بكل امتنان أن أركن إلى إحدى زواياها منشغلة بمطالعة كتاب مثلا، لكن نظرات التطفل وإزعاج التساؤلات، تفقدك خصوصية التوحد مع ذاتك وتجبرك على تقاسم اللحظات الأكثر مللا في يوم عملك مع أولئك المزعجين.
لست أبالغ! إن هذا الموضوع لن يكون شيّقا معرفيا، ما لم تنطبق عليك جملة من المواصفات تؤهلك لنسبة تتجاوز الاعتدال في تدرج الطيف الانطوائي، حيث ستتفهم الشعور الحقيقي خلف الجزئية المملة من يوم عملي.
مقدما بإمكانك اعتبار نفسك صاحب صفة وراثية تميل إلى "اللااجتماعية" كنوع من تخفيف حدّة لفظ "الانطوائية" والمخاوف التي قد تصاحبه -حيث لا شيء يدعو للقلق البتة- فأصحاب الطيف الانطوائي ذا التدرّج العالي، هم أشخاص طبيعيون جدا، يتميزون بجملة من المواصفات غير الشاذة، تعالوا لنتعرف عليها معا.
*إنهم أشخاص يميلون للهدوء والعزلة غالبا، ويفضلون مرافقة أصدقائهم إلى الأماكن التي تتميز بالهدوء، بدلا من الأماكن والتجمّعات الصاخبة، ينتابهم -بشكل متكرر- رغبة ملحة في الهروب من ضجيج الحياة.
*تجد أنهم من النمط الذي يرهقه المحادثات المطوّلة، والمحشوة بتفاصيل لا تهمهم بحال، إنهم يتهربون منها إلى استعمال الرسائل القصيرة تجنبا للمهاتفة إلا للضرورات.
*إنهم يعتنون بالوقت ويقلقهم الهدر، بعكس كثير من الشخصيات المنفتحة على الآخرين، يحرصون بشدة على ملء فراغهم بنشاطات خاصة، كمطالعة الكتب أو مشاهدة برامج هادفة أو مناقشة مواضيع مهمة، ذات أفكار عميقة مع أصدقائهم الأكثر شبها بهم.
*هم مستمعون جيدون، ففي غالب الفرص التي تجمعهم مع الآخرين تجدهم هدفا لتوجيه الحديث من قبل أشخاص قد لا تربطهم بهم كبير صلة، لأنهم يجيدون فن الإصغاء وعمق التحليل، ولا يصدرون إجابات قاطعة دون إخضاعها لمزيد من الفهم والتمحيص، فهم محل ثقة وسداد رأي.
*وحتى على صعيد أحداثهم ووقائعهم الشخصية، بل ومناسباتهم الخاصة، هم من النمط الذي يغرقون في تحليل التفاصيل وترتيب المعطيات، ويقضون الكثير من الوقت مع أفكارهم وتصوراتهم وخططهم المستقبلية، مفضلين ذلك على زيارة اجتماعية ملحّة.
*يملكون دائرة اجتماعية محددة وضيقة، مقارنة بالأشخاص الذين يستطيعون تكوين صداقات تتسم بالقرب مع من كان، يدهشهم سلوك الانفتاح على الغرباء، خاصة من مثل أولئك الذين يملأون غرف الانتظار ضجيجا، ويعقدون ارتباطات تصل لتبادل أرقام الهواتف من الجلسة الأولى!
*أصحاب الطيف الانطوائي في درجاته العليا غالبا ما يتمتعون بذاكرة تحفظ تفاصيل الأحداث بدقّة، بالرغم من أنهم من أكثر من يستهلك قصاصات التذكير في نطاق أعمالهم اليومية.
*هم يفضلون استخدام الكتابة كوسيلة للتعبير عن أنفسهم لأنفسهم وللآخرين، إذ إنهم من أكثر الأشخاص الذين يحافظون بانتظام على كتابة اليوميات كنوع من تفريغ الشحن العاطفي، أو تدوين الأحداث المهمة أو المشاريع المستقبلية، وحتى الأحلام المؤجلة.
*هم قادة فاعلون جدا؟ هل يدهشك هذا؟ نعم لأنهم أبعد ما يكونون عن المجازفة، ويأخذون وقتهم في التفكير في كل الخيارات قبل اتخاذ القرارات، من ناحية أخرى إنهم يتركون فسحة الإبداع للآخرين، ويتيحون لهم فرصة الوصول بأفكارهم لتحقيق نجاحات مميزة، العمل معهم متعة حقيقية فهم أبعد ما يكونون عن سمة الاحتكار.
مفهوم الانطواء
مصطلح "الانطوائية" بالتضاد مع "الانبساطية" هو صفة طبيعة يحملها الإنسان كما يحمل لون عيون خضراء أو بشرة سمراء مثلا، لا علاقة لذلك بطريقة النشأة ولا بتأثير البيئة أو المجتمع. والتدرج الانطوائي هنا هو إشارة إلى تدرج حدة الرغبة في العزلة عن الآخرين.
ولما كان الاختلاف التكويني يباين الأشخاص، وُجد أن الانطواء التام، أو الانبساط التام، صفتان تنعدمان تماما إلا في وجود خلل حقيقي في التركيب النفسي يستدعي تدخلا علاجيا طبيا، عدا ذلك يتدرج الناس في امتلاك هاتين الصفتين تدرج حدة اللون الواحد من الغمق القاتم إلى التفتح الشفاف.
فالانطوائية لا تعدّ بحال خللا نفسيّا، ولا يمكن تخيل أصحاب هذا الطيف أشخاصا شاذين منعزلين خلف شاشاتهم الرقمية منقطعين عن العالم الحقيقي، أو معقدين اجتماعيا، بل إنك لا تكاد تميزهم عن غيرهم إلا بالاقتراب منهم والارتباط بهم بعلاقات من القربى والمعايشة.
تقول "سوزان كين" الباحثة في السلوك الانطوائي: "إن الأشخاص الذين يمثلون هذا الطيف -قياسا بحجم المجتمع- هم شريحة كبيرة متسعة اتساع الثلث إلى الثلثين، على أقل التقديرات، إنهم موجودون من حولك حتى وإن لم تدرك تصنيفهم، ذلك أن النزعة للانطواء ظاهرة طبيعية جدا وموجودة حتى قبل تشكل اللغة ودراسة السلوك، وهي لا تعني الخجل البتّة، بل تعني طريقة استجابتك للتحفيز الاجتماعي فالأشخاص المنفتحون يتعايشون مع عالم الضوضاء، ويحتاجون الكثير من التحفيز، بينما الأشخاص الانطوائيون يشعرون أكثر ما يشعرون بالحياة والقدرة والتمام عندما يكونون في بيئة هادئة".
فاعلية الانطواء
"يشير الميراث الثقافي لبناء الحضارات أن العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها أي حضارة تتمثل في: الإنسان، التراب، الوقت، ثم مؤثر الدين الذي يدفع الإنسان للمضي قدما باتجاه التقدم بما يمنح النفس مبدأ الشعور" مالك بن نبي.
فالدين هنا هو الفكرة العميقة التي استغرقت أعظم قادة البشرية من الأنبياء، والرسل عليهم السلام في أزمنة مكثفة من العزلة والتعبد والفكر، لتلقي الإلهام المقدس والوحي المنزّل، ومن ثمّ العودة إلى مجتمعاتهم لتبليغ الرسالة، وتأدية الأمانة، في تدرج طبيعي من الخلوة إلى الصحوة.
كما تشير الأبحاث أن أعظم القادة الذين أثروا في تاريخ البشرية بشكل فاعل كانوا من ذوي الشخصيات الانطوائية من أمثال روسا باركز وغاندي. وتضيف سوزان كين "إن هؤلاء القادة لا يكثرون التحدث ويتميزون بالتواضع والعزلة مع هذا استطاعوا الوقوف أمام الأضواء، رغم أن كل جزء فيهم كان يحثهم على العكس، مظهرين قواهم الخاصة، متربعين على رأس هرم التأثير الإيجابي لا لأنهم يعشقون توجيه الآخرين، وجذب الأضواء، بل لأنهم لا يملكون خيارات أخرى، فهم مدفوعون بشعور المسئولية تجاه شعوبهم".
الدفع المضطرد نحو الانبساطية
ولما كان أصل الحضارة يقوم على الفكرة العميقة المؤثرة التي تُبنى على التأمل والفكر، نجد العكس تماما في أيامنا هذه من دعوى الانفتاح الكبير على الآخرين، فقد وجد الناس أنفسهم ملزمين بإثبات ذواتهم ضمن جموع الغرباء، في التجمعات الاقتصادية أو الاجتماعية أو المؤتمرات الكبرى، والمناسبات العامة الآخذة في الاتساع، بدلا مما ألفوه من تحجيم العمل ضمن دوائر مغلقة من الألفة مع أشخاص مقرّبين.
" إن صفات الجذب والكاريزما أصبحت مهمة جدا، وحتما تغيرت فكرة الميل للعزلة، مع أن علماء النفس يؤكدون أن التواجد ضمن مجموعات يفرض علينا التصرف بصورة لا واعية من مراقبة، وتقليد آراء وحتى معتقدات الآخرين، في تلاشٍ مؤكدٍ لاستقلالية الفرد، والانصياع اللاإرادي للأفراد الأكثر جاذبية في تلك المجموعات ".. سوزان كين.
ومن هنا يتعرض الفرد لخطر الديناميكية الجماعية، بدل أن يولد أفكاره الخاصة به وبالطبع هذه ليست دعوة إلى نبذ العمل الجماعي، بقدر ما هو نوع تأكيد على وجود شريحة واسعة من المجتمع يمكن أن تصبح أكثر فاعلية وإبداعا بتوفر بيئة من الخصوصية لها.
فليس عليك بتاتا الشعور بالذنب أو تلقي رسائل من النوع الذي ينتقد نمط عيشك الهادئ ويجبرك على الانفتاح والانطلاق بعيدا عن شعورك الحقيقي الذي يفضل العزلة، الأمر الذي سيجبرك حتما على كسر الحاجز الفطري، والقيام بأعمال اندفاعية حتى تصبح عملية الشد العكسي للإرادة تحدث بصورة تلقائية دون أن تنتبه إليها، إن ذلك أشبه بأن تلج إلى مجال المحاماة، بينما تكون رغبتك الحقيقة هي أن تصبح كاتبا، وهذا بالضبط ما حدث مع سوزان كين ودفعها للبحث المطوّل خلف سلوكها الطبيعي لتثبته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.