من رَحمِ الزنزانة.. ننتظر 25 يناير أخرى!

فجأة.. ومن دون أية مقدمات.. يُفتح باب الزنزانة مُصدِراً صريراً يُسكتُ كلّ من حوله.. تتعلّق أعين الجميع بذلك الذي يدخل حاملا ورقة فيها اسم من ستكون عليه حفلة الضباط الليلة تتسارع دقّات قلبي.. حتى ينطق بالاسم.. الحمد لله.. إنه ليس اسمي!

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/24 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/24 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش

"مطار القاهرة يرحب بكم".. هذا ما كان مكتوباً على لافتةٍ صغيرةٍ أمام موظّف الأمن المسئول عن التفتيش والجمرك والذي قابلني بابتسامة صفراءَ لزجة تعلو شفتيه قائلا "حمد لله عالسلام يا باشا" والتي عرفت لاحقاً أن لها معنىً مختلفاً عمّا فهمته وقتها.

وعندما لم أفهم طلبه، بدأ بتفتيش الحقائب وإخراج كل ما فيها.. فلّما لم يجد ما يستحق الجمرك، طلب منّي تصفّح هاتفي المحمول، وعندما رفضت أصرّ وقال إن القانون يبيح له ذلك..

أخذه ودخل على حساباتي في مواقع التواصل الاجتماعي ورأى أن آرائي الشخصية لا تتوافق مع آراء النظام.. فتغيرت ملامح وجهه لأرى نظرة المنتصر في عينيه وكأنه يقول لنفسه "حسناً، لقد حصلنا على صيدٍ ثمينٍ اليوم".. وبعد يوم طويل من الانتظار والتنقل بين غرف أمن المطار.. تم نقلي إلى زنزانة الحبس الاحتياطي في قسم الشرطة.. وهنا فقط بدأت القصة!

الخامسةُ فجراً.. أفتح عينيَّ بتثاقُل.. فأجد رأسي مدفونة تحت ذراع أحدهم.. أرضٌ باردة.. ألتفت جانبي لأجد صديق زنزانتي "أنس".. يحتضن نفسه بذراعيه.. رغم شخيره بسبب التهابه الرئوي من صقيع الزنزانة.. رغم العرق الذي اكتسى جبينه بسبب إعيائه من حفلة استجواب الضباط له بالأمس.. إلاّ أنه يبدو مبتسماً.. تماماً كما الملائكة.

أُعدّل فَرْشَتِي الصغيرة.. تحت فرشتي كركبات من أحزان.. وبعض ذكريات.. أُغمض عينيّ قسراً علّي أنام..

أسبوع مضى منذ إيقافي من المطار.. مرَّ كأنّه دهرا.. انتظار جلسات الإجبار على الاعتراف بما لم أفعله يقتلني.. تهديداتهم باعتقال أسرتي تقتلني.. إساءاتهم واستهزاؤهم بكل ما قامت من أجله ثورة يناير/كانون الثاني يقتلني!

توقّف الزمن بي هاهنا.. وتلوّنت حياتي بدرجات اللّون الأسود.. كائن غريب أصبح جليسي في كل الأوقات.. أرى ظلاله في أضواء كسرها صمت السجن من حولي.

في الصباح.. وخارج حدود عالمي.. يمتلئ المكان ضجيجاً.. صراخ وألم.. دعاء.. ضحك واستبشار بحرية قريبة.. أترك هذا كله وأقترب من نافذة صغيرة في أعلى باب زنزانتي.. أًقرّب أنفي منها لأستنشق هواء مُعطّراً ببقايا من رائحة الحرية!

ثم أضع كل أشيائي فوق بعضها وأقف فوقها لأصل إلى نافذة صغيرة في جدار زنزانتي.. يدخل منها ضوء الشمس على استحياءٍ في غفلة من قضبان النافذة الحديدية الصلبة.. أنظر إلى الشمس.. أحادثها.. هلّا أخبرتي عائلتي كم أفتقدهم؟ أخبري حبيبتي أنّني على العهد.. أخبري أصدقائي أنني لا أنساهم.. لا لا..؟ أهذا كثير؟ إذن فقط أخبريهم أني بخير.. وأننا حتماً سنلتقي..

فجأة.. ومن دون أية مقدمات.. يُفتح باب الزنزانة مُصدِراً صريراً يُسكتُ كلّ من حوله.. تتعلّق أعين الجميع بذلك الذي يدخل حاملا ورقة فيها اسم من ستكون عليه حفلة الضباط الليلة تتسارع دقّات قلبي.. حتى ينطق بالاسم.. الحمد لله.. إنه ليس اسمي.. يأخذ صاحب الاسم معه ويخرج.. يُغلق باب الزنزانة بقوة فيرتطم بالإطار المعدني.. وبشيء ما في قلبي!

آخذ نفساً عميقاً كما لو كنت لم أتنفس منذ أن دخل علينا.. يبدأ صوت دقّات قلبي الذي كنت أسمعه في أُذُنيّ بالتلاشي، لا أدري.. أأبتسم أم أبكي.. لكن على أي حال، يبدو أنني سأعيش يوماً آخر في هذه الزنزانة والتي أعتبرها أفضلُ كثيراً من حفلة استجواب قادمة لي.. وتُخبرني آثار السابقة على جسدي أن التالية قد تكون الأخيرة!

لا أستطيع هنا أن أدّعي البطولة وأنني أستطيع تحمّل أي شيء في سبيل الحرية لأهل بلدي.. فبنظرة عن قُرب يبدو أنهم لا يريدونها من الأساس! تفحصّت وجوه من حولي جيداً.. أطباء مهندسون، لكل وجه قصته، ولكل قصة حياتها، لأعلم أني لست وحيداً في هذه الزنزانة، فما أنا إلا وجه آخر، لقصة سوداء أخرى.. ننتظر 25 يناير آخرى.. لتتلون صفحاتها!

الآن وبعد أن أخبرتكم من أنا.. أنا بخير هنا.. فماذا عنكم؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد