كانت عربته بعجلتين في الأسفل ولوح خشبي بطلاء أبيض في الوسط، بينما في جوف العربة طنجرة معدنية كبيرة.. وفوق اللوح الخشبي منشفة وبعض أوراق الجرائد وأخرى مبتورة من كتب ومقررات دراسية لتلفيف الحمص والفول.
كان بائع "طايب وهاري" يضع بضاعته في صحن كبير، ويعرضها مبللة ورائحتها تسيل اللعاب، كنت أمر على هذه العربة صباحا والرجل يهيئ هذه الأكلة الدافئة، ومساء عندما تنضج وتنتشر رائحتها مغازلة أنوف المارة ومثيرة فينا الشهية والجوع.. وبما أنني وصديقتي كنا شغوفتين بهذه الفاكهة الدكالية بامتياز، فلم تكن عودتنا إلى البيت تكتمل دون أن نعرج على صاحب العربة لنبتاع حمصا وفولا مرشوشا بالملح والكمون، كانت صديقتي تفضل الفول، بينما كنت وما زلت أعشق الحمص مع الحار..
في أحد مساءات "دجنبر" الباردة، تسللت إلى أنفي تلك الرائحة التي لا تقاوم، فساقتني دون سابق إنذار إلى المكان ابتعت بمعية صديقتي درهمين من الحمص والفول، ومضينا نلتهم "طايب وهاري" بنهم كبير وقد امتزج برائحة المداد الصيني الأسود، لكن المفاجأة كانت حينما استخرجت ورقة بيضاء ملفوفة بعناية في غطاء بلاستيكي أبيض.
بفضول كبير، شرعت أناملي في عملية التفقد، فإذا بها رسالة، جاء فيها: "لا تحقري وزرتي التي استحال بياضها إلى سواد طوح به الزمان في غياهب كفاح الحياة، ولا تسخري من حمرة خدي فحرارة "الزمن" تلفحني كل يوم، أنا الآن تائه فيك مثل رواية "ساحرة بورتوبيللو" حينما تحضرين يتجسد الجمال وأشعر أن لنبض القلب وظيفة وأنه لا معنى للملاحم والغزوات والأبطال، إلا أن أكون أنا مبتدأك ومنتهاك..لك أن تمارسي تجاهلك، لكنني ها هنا أحاول الانتصار بلغة تؤدي معنى الأمل.. إني والله أحسد ملفوف الحمص لأنه بين يديك، وأغبط حبات الحمص لأنها تلامس ثغرك الباسم.. إنه جبروت عفوي أصابني بالعشق منذ الرمشة الأولى".
قرأت تلك الرسالة بصوت مرتفع، كانت خفة الكلمات تجنح بي، ولؤلؤة الحكي يخطفني بريقها، علتني حمرة شعرت بها تسري في كل أوصالي، كانت تلك رسالة الحب الأولى التي أتلقاها، كل شيء فيها كان مميزا، الصنعة الكلامية جعلتني أستبعد أن يكون صاحبها هو ذات بائع طايب وهاري"، شرد ذهني وألف سؤال يحيرني: "هل يكون فعلا صاحب طايب وهاري عاشقا؟
على وقع قهقهات "شريرة" من صديقتي استفقت من شرودي، فضلت أن أميل إلى أن الصدفة وحدها هي التي وضعت هذه الوثيقة في طريقي، خاصة أنها لا تحمل أي إشارة لي، لكن صديقتي المشاغبة كانت مصرة على أن الشاب-البائع عاشق: إنه يعشقك حنان، يتتبع خطاك، ينتظر قدومك، يمني النفس بنظرة منك، نهرتها لتسكت لكنها تمادت ساخرة: أظنك تستكثرين على الرجل الحب وكأنه كتب عليه أن يغازل حبات الحمص والفول ويكتوي بنار تجاهلك..
لم أكن أفكر في شيء مما تقول صديقتي وأنا بعد فتاة في 15 من عمرها، لكنني بطريقة أخرى شعرت بكلامها يستفزني وسرعان ما طويت الموضوع بتمزيق تلك الرسالة بعد أن علقت تفاصيلها بذاكرتي.. لكنها لم تكن الأولى، فقد تلتها ثانية وثالثة.. كانت رسائل مختلفة حري بأسلوبها أن يدرس للعشاق.. وللأمانة فقد ندمت على تمزيقها.. لم يكن في تلك الرسائل أي حماقة من تلك التي كان يتداولها المراهقون فيما بينهم وأشهرها قلب أحمر يخترقه سهم.. كنت أفغر فمي من دهشة السرد وأعاجيب القص، وأنا أستحضر قسمات شاب طويل القامة، بشعر أسود كث وعينين غائرتين، ووجه دائري اكتسى حمرة لا تفارق وجنتيه من حرارة الطهي..
ورغم أنني لم أكن أجد في بائع طايب وهاري شيئا من صورة فارس أحلامي.. إلا أن عباراته لم تكن مزيفة ولا مستنسخة من كتب العشاق، لقد كان محبا صادقا نال حظه من تجاهل صبية بالكاد بدأت تستشعر وجود الآخر في حياتها.
اليوم سحبتني طفلتي ريم ذات الثلاث سنوات إلى عربة طايب وهاري وقد جذبتها رائحة الحمص، أذعنت لطلبها كما أذعنت لسيل الذكريات الذي قذفته تلك الرائحة لوهلة في ذاكرتي.. تذكرت الكثير.. فلا عاد لـ"طايب وهاري" نفس الطعم، ولا عاد لتلك الرسائل وجود.. رسائل بطعم الحب والحمص.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.