قد ينظر البعض إلى التجربة التركية بكونها تجربة اقتصادية نهضوية، وقد ينظر إليها آخرون بأنها تجربة تنموية ولدت من رحم التجربة البلدية، وما بين هؤلاء وهؤلاء تكتمل فصول حكاية هذه التجربة، ولكن بالبعد القيمي الذي قامت عليه كمرتكز وأساس.
إن حقيقة المشهد التركي اليوم ينطق بكثير من الشواهد التي كانت خافية على الناس مع انطلاقة هذه التجربة في نهايات الثمانينيات من القرن العشرين، فهي ثورة تصحيحية ولدت ناضجة بكل ما في الكلمة من معنى، تجربة ولدت بعد فهم الصعاب الجاثمة في طريقها، وحجم التحديات التي تواجهها، ولم تنسلخ في يوم من الأيام عن الماضي التركي ولم تتبرأ منه بخيره وشره.
يتبوأ حزب العدالة والتنمية اليوم مكانة مرموقة في المشهد السياسي التركي بدعم شعبي لافت، وهذه المكانة الجماهيرية التي يتصدر من خلالها الواقع التركي منذ انطلاقته لم تأت عبثاً ولم تنشأ جزافاً، بل هي وليدة تخطيط محكم، وسياسة عامة وتكتيكات سياسية متعددة لجأ إليها الحزب وهو فكرة قيد التنفيذ.
إن التجربة الديمقراطية الأولى بقيادة عدنان مندريس رئيس الوزراء التركي الأسبق، والنهضة الاقتصادية الكبرى التي أرساها تورغوت أوزال الرئيس الأسبق، ومن قبلها سقوط الخلافة العثمانية، ومن بعدها انقلابات العسكر التي كانت تتم بشكل متكرر فتقضي على الحياة المدنية في تركيا، قد أسهمت مجتمعة في صناعة هوية حزب العدالة والتنمية وأطروحاته السياسية وشكله الجماهيري، وأدبياته التي أعلن عنها كحزب محافظ وليس كحزب إسلامي في بيئة العلمانية الأتاتوركية الصارمة.
ما بين ميلاده ومرحلة العمل البلدي، وصولاً إلى السيادة في البرلمان التركي، وانتهاءً بتشكيله للحكومة منفرداً عدة مرات، تطورت اتجاهات الحزب، وأخذ بيد تركيا نحو اتجاهات أكثر نمواً وقوة، فمن الاهتمام بإنشاء الشريحة الوسطى في المجتمع، وصولاً لزيادة حالة الرفاهية في الشارع التركي، استطاع هذا الحزب أن يلتصق بالشارع ويطرح نفسه التيار الأقوى فكراً وممارسة سياسية، بشكل يهمش كل التيارات الكلاسيكية التي حكمت تركيا على مدار عهدها الجمهوري.
الشاهد هنا، أن هذا الحزب استطاع تجاوز كل الضغوطات السياسية، وتجاوز الأزمة الاقتصادية، ومراحل الانتخابات العشرة الماضية بكل قوة بفضل طرحه القيمي وليس بفضل جسارة واقتدار قيادته السياسية فحسب، فشخصية أردوغان وفريقه الأول، ليست إلا انعكاساً للقيم التي أنشئ الحزب لأجلها، والتي لولاها لذاب الحزب تماما ما بين مطرقة العسكر والدولة العميقة وبين سندان الأزمات والتدخلات الإقليمية والدولية ضده.
هذه القيم بمجملها هي القيم العثمانية التي تشربها المجتمع الأناضولي قبل العهد الجمهوري، كقيم الاستقلالية، والاحترام للذات، وبناء الموارد الذاتية، ومساندة المظلومين في العالم، واحترام المرأة والعائلة كمؤسسة، والعمل الوقفي والمؤسسي، ونحوها، فهذه القيم هي التي حمت الحزب وأحدثت له هذا الثقل الجماهيري، وأمنت له حاجز الصدّ ضد التدخلات والضغوط الخارجية التي لم تهدأ قط.
ولذلك، فإنك لا تكاد تجد خطاباً لأردوغان أو وزراء حزبه أو لداود أوغلو ومستشاريه، أو حتى لنواب الحزب يخلو من هذه القيم مقرونة بالإنجازات الكبرى التي يجري تنفيذها على أرض الواقع، في رسالة للجمهور التركي بأن القيم الحاكمة للحزب لم تتغير، وأنه مستمر على نهجه حتى تحقيق أهدافه الإستراتيجية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.