جولة في التراث السلفي
نستكمل سلسلتنا التي نتجول فيها في تراث طوائف الأمة، لعرض بعض مظاهر العنف مع المخالف و"المبتدع"، وقد تناولنا في مقالتين بعض النقولات التي تنضح عنفًا من تراث الشيعة الاثنى عشرية، وهذه هي المقالة الثانية التي نتجول فيها في شيء من تراث السلفيين، ثم ننتقل بعد هذا إلى تراث المعتزلة، ثم الأشعرية، فما طائفة من طوائفنا بأفضل من غيرها في العنف مع المخالف تنظيرًا أو تطبيقًا، لكن ربما تطول استدلالاتي في شأن السلفيين لا لشيء إلا لأني بهذا التراث أعرف وله أقرب وعليه نشأت.
تجولنا في الجزء الرابع من سلسلتنا في كتاب السنة للبربهاري، وهو كتاب مهم من كتب السلفيين، ونتجول الآن في هذه الحلقة الخامسة من سلسلتنا في كتاب آخر لا يقل أهمية عن كتاب البربهاري هو كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل.
يقول البعض إن كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل فيه الكثير من الضعيف الإسناد، والحقيقة أن مسألة الضعف والصحة لا تهمني، لأنه لم يكتب كتابه للتحذير من العنف، أو لبيان ضعف ما هو ضعيف من تلك المقولات، بل كتب كتابه في سياق الهجوم والرد، وما ورد في هذا الكتاب من الضعيف إنما أُتي به تدعيمًا وتجييشًا، ولئن كان في الكتاب ضعيف، ففيه أيضًا ما هو صحيح، والعبرة كل العبرة هي في "قبول ما فيه" حتى لو كان ضعيفًا، فقصة قتل الجعد بن درهم مثلاً ضعيفة الإسناد، لكنها تساق في كتب القوم للتأييد والقبول والنشوة والانتصار.
نال "الجهمية" الحظ الأوفر من اللعن والتكفير في هذا الكتاب الذي ننتقي منه، وتدور ما فيه من نقولات على أن الجهمية ينكرون الاستواء (بمعناه الظاهري)، ويقولون: إن الله ليس في السماء (وهو قول المتكلمين نفاة المكان عن الله)، ويقولون إن القرآن مخلوق (وهو قول الإباضية والمعتزلة والاثني عشرية والزيدية، وبوجهٍ ما: الأشاعرة الذين يفرقون بين الكلام النفسي المعنوي القديم، والعبارة عنه وهي الحروف والألفاظ).
أي أن الجهمية الملعونين هنا والمكفّرين والمرتدّين هم نفاة الصفات ومؤولوها من كل طوائف الإسلام عدا السلفيين! بغض النظر عن (مقدار التجهّم) في كل طائفة منها.
كفر الجهميّة، وعدم جواز الصلاة خلفهم:
يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل:
حدثني الحسن بن عيسى مولى عبد الله بن المبارك، حدثنا حماد بن قيراط، قال: سمعت إبراهيم بن طهمان، يقول: "الجهمية كفار، والقدرية كفار".
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني زهير بن نعيم السجستاني البابي ثقة، قال: سمعت سلام بن أبي مطيع، يقول: "الجهمية كفار لا يصلى خلفهم".
حدثني أحمد بن سعيد أبو جعفر الدارمي، قال: سمعت أبي يقول: سمعت خارجة، يقول:" الجهمية كفار بلغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا يحللن لأزواجهن لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم، ثم تلا {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} إلى قوله عز وجل {الرحمن على العرش استوى} وهل يكون الاستواء إلا بجلوس؟".
أي أن من ينكر أن معنى الاستواء في حق الله هو "الجلوس" فهو جهمي، تطلق امرأته!
ضرب الجهمي وحبسه حتى يموت:
يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا سريج بن النعمان، أخبرني عبد الله بن نافع، قال: كان مالك بن أنس رحمه الله يقول: "من قال القرآن مخلوق يوجع ضربا ويحبس حتى يموت" وقال مالك رحمه الله: "الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء، وتلا هذه الآية {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم} وعظم عليه الكلام في هذا واستشنعه".
الجهمي يجب أن يُصلَب:
يقول ابن أحمد:
حدثني محمد بن إسحاق الصاغاني، ثنا محمد بن عبد الرحمن المحرزي، ثنا محمد بن جنيد، عن سفيان بن عيينة، قال: "من قال القرآن مخلوق كان محتاجا أن يصلب على ذباب يعني جبلا".
الجهمي يقتل مباشرة بلا أي استتابة:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:
حدثني أحمد بن إبراهيم، حدثني أحمد بن يونس بن عبد الرحمن بن مهدي، حدثني عمي، موسى سمعت أبي عبد الرحمن بن مهدي، يقول: "أنا لا أرى أن نستتيب الجهمية".
وقال:
حدثني هارون بن عبد الله الحمال، حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: " لو كان لي من الأمر شيء لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد من الجهمية إلا سألته عن القرآن فإن قال: إنه مخلوق ضربت رأسه ورميت به في الماء".
اغتيال الجهمي:
ولا يوكل قتل الجهمية إلى وليّ الأمر، بل يجوز حتى للعامّة اغتياله!!
يقول عبد الله بن أحمد:
سمعت أبا معمر الهذلي، يقول: "من زعم أن الله عز وجل لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يغضب ولا يرضى -وذكر أشياء من هذه الصفات- فهو كافر بالله عز وجل إن رأيتموه على بئر واقفا فألقوه فيها بهذا أدين الله عز وجل، لأنهم كفار بالله تعالى".
والجهمية لا يقولون إن الله لا يسمع ولا يتكلم ولا يبصر ولا يغضب.. إلخ! بل يقومون بتأويل تلك الصفات، فالسمع عندهم هو علم الله بالمسموعات، والبصر عندهم هو علم الله بالمبصَرات، والغضب عندهم إرادة العقوبة، والرضا عندهم: إرادة الإحسان. وبسط هذا من كلامهم وذكر استدلالاتهم العقلية واللغوية يطول في هذا الموطن.
الجهمية تعبد العدم:
ولأن الجهمية يقولون: إن الله لا في مكان؛ لأنه خالق المكان والزمان، وفي هذا يقولون: إن الله لا خارج العالم ولا داخله، لأن خارج العالم مكان، وداخل العالم مكان، والله خالق المكان فكيف يحويه مكان وزمان؟ وهذا القول هو قول عامة متكلمي المسلمين من جميع الطوائف.
أقول: لأن الجهمية تقول بهذا القول فقد نسب إليها خصومها بأنه لا تعبد شيئا!
نقل عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني محرز بن عون، حدثني أبو سهل يحيى بن إبراهيم وكان يلقب راهويه قال: قال ابن المبارك: "ليس تعبد الجهمية شيئا"
وقال:
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني سالم بن رستم أبو صالح، قال: حدثني يحيى بن إبراهيم أبو سهل راهويه، قال: " كنت أدعو على الجهمية فأكثر فذكرت ذلك لعبد الله بن المبارك ودخل قلبي من ذلك شيء فقال: لا يدخل قلبك فإنهم يجعلون ربك الذي تعبد لا شيء".
الجهمية كفّار لأنهم يقولون: القرآن مخلوق
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:
حدثني غياث بن جعفر، قال: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: " القرآن كلام الله عز وجل، من قال: مخلوق، فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر"
وقال:
حدثني عباس العنبري، حدثنا شاذ بن يحيى، سمعت يزيد بن هارون، وقيل، له: من الجهمية؟ فقال: "من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي"
وقال:
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني محمد بن نوح المضروب، عن المسعودي القاضي، سمعت هارون، أمير المؤمنين يقول: "بلغني أن بشرا المريسي يزعم أن القرآن مخلوق لله علي إن أظفرني به إلا قتلته قتلة ما قتلتها أحدا قط".
ولك أن تتخيل أي قتل شنيع ينتظر المريسي هذا! والقتل المستشنع جرى مثله في التراث في حق غيلان الدمشقي والجعد بن درهم، ولعلنا نتناول هؤلاء المقتولين في مقالة أخرى.
إهانة الجهميّ وشتمه في الحوار:
ونقل ابن أحمد:
سمعت سوار بن عبد الله القاضي، سمعت أخي عبد الرحمن بن عبد الله بن سوار، يقول: كنت عند سفيان بن عيينة فوثب الناس على بشر المريسي حتى ضربوه وقالوا: جهمي، فقال له سفيان: يا دويبة يا دويبة ألم تسمع الله عز وجل يقول {ألا له الخلق والأمر} فأخبر عز وجل أن الخلق غير الأمر، قيل لسوار فأيش قال بشر؟ قال: سكت لم يكن عنده حجة".
فتأمل كيف يشتمه ويسبه لأنه مخالف!
وأما كونه سكت ولم يأت بحجة، فأقول: بل هناك حجة ذكرها القائلون بهذا القول، هي قوله تعالى: {وكان أمر الله مفعولاً}، وهو نص في أن أمر الله "مفعول" أي "مخلوق"! وهكذا تبطل دعوى التفريق إلا من حيث المعنى لا من حيث طبيعة الأمر وكونه مخلوقًا، وتبطل حجة ابن عيينة! والنقاش والجدال لا ينتهي.
وليت الأمر وقف عند الجهمية القائلين بخلق القرآن، فحتى من توقف في هذه المسألة وسكت لأن الصحابة سكتوا ليس معفوًّا عنه عند هذه المدرسة، فيقول عبد الله بن أحمد: سمعت أبي رحمه الله مرة أخرى وسئل عن اللفظية، والواقفة فقال: "من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي، وقال مرة أخرى هم شر من الجهمية".
تلك النصوص وأشباهها يؤمن بها من يكفّر داعش، أو يشنّع عليها، ويعتقد بها، ويلقنها ويدرسها، ويسردها في مجالس العلم، وحلقات الذكر في المساجد!
فهل اختلف الأمر كثيرًا بين المنكِر والمنكَر عليه؛ إلا من حيث إخراجه إلى حيّز التنفيذ؟
لن أناقش في هذه النصوص، ولكني أقول لأخي السلفي ما قلته من قبل لأخي الشيعي:
يا أخي السلفي الكريم، إن كنت تؤمن بصحة هذه الكلام أعلاه وصوابه سواء أكان ضعيف الإسناد أم صحيحه؛ فيؤسفني أن أقول لك:
إنك امرؤ فيك داعشية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.