من قال إن الحرب أبشع حالات الإنسان؟
نعم.. من قال ذلك؟ مثل الأعاصير هي، بالرغم مما تدمر إلا أنها تكشف عن كنوز.. ولأن الحياة يجب أن تُعاش، لا بد أن يموت جزء من البعض؛ لتستمر.
الأشجار تموت بعضها في حربها مع الزمن، لتمنحها الطبيعة بعد ذلك الحياة كاملة، وفي الثورات يموت بعض الشعب؛ ليحيا كله.. بعض النقص.. روح الاكتمال.
بعد معركة هي الأعنف على الإطلاق، ومع انتشار أرغفة الضوء على الجبال والتلال الجائعة.. كلفني قائد الجبهة بحراسة الموقع الذي يقابل موقع العدو، تفصل بينهما مسافة رصاصة وخطوة..
برغم أنني كنت إسنادا في الخطوط الخلفية إلا أنني لم أستطع النوم تلك الليلة، قهقهات المدافع التي تصم الآذان وأزيز الرصاص الذي يسرق من الليل سكونه جعلاني أشد إرهاقاً من المقاتلين بالخطوط الأمامية..
ليس لدي حيلة إلا البحث عن وسيلة تجعلني منتبهاً يقظاً.. فكرت كثيراً.. القهوة كانت أول الخيارات، لكنها سرعان ما تلاشت، فالقهوة تحتاج إلى صوت فيروز وصباح أنيق، والحرب لا تسمح لفيروز أن تغني، ولا لقيس أن يعشق ويرى ليلاه هذا الصباح، ولا وجود للقهوة أصلاً.. ربما السيجارة تفي بالغرض، لكنني لا أدخن.. أخيراً.. نبتة تفعل ما لا تفعله حبوب موانع النوم، إنها تُسقط النوم من سماوات الكآبة المستيقظة وتصنع النشوة في الكائن المتعاطي وهي الخيار الأنسب.
إن نبتة القات بمثابة الجعة وللمتعاطي حق التمتع بجعته.. وهي الشيء الوحيد الذي يُجمع عليه كل اليمنيين وهي أيضاً خصوصية من خصوصياتهم، كما أن لكل شعب خصوصياته.. إنها الرمز "الإشارة" التي تعطي الإحساس بالتخلص من الكوارث، وشيء كهذا هو مصدر قوة لمواجهة الآلام.
لا بد إذاً من البحث عنها، تناولت وجبة الإفطار على أمل إيجاد طريقة توصلني لها.. بعد أن أصبحت دافئاً وشابعاً بدأ النوم يتسلل نحو تخوم العين محاولاً أن يغمضها، أخوض حرباً ضروساً مستحثاً كل القوى العقلية لإنقاذي من هذا الموقف.
أختلس النظرات إلى المترس المقابل.. تأكد لي ألّا وجود لحركات مريبة من شأنها أن تدعو للقلق أو الخوف أو حتى الاستعداد لمواجهة الخطر.. رجل بمفرده فقط كما أنا.
في اللحظات الخصبة من الإحباط تومض الأفكار باستحياء، تلك اللحظة لمعت في ذهني فكرة لكنها خطرة نوعاً ما.. وأعتقد أن الأفكار الخطرة هي الناجحة دوماً.. فكرتُ بالذهاب للمتمترس لأطلب منه القات.. عدَّلتُ الفكرة إلى مناداته بدلاً من الذهاب إليه.
ناديته بصوت مرتفع ناعتاً إياه بـ"الرافضي".. رد عليّ بجوابٍ من جنس ما نعته: نعم يا "داعشي".
نجازف أحياناً بإطلاق ألفاظ وإلصاق ألقاب على بعضنا لا نعرف منابعها ولا دوافعها ولا الأشياء التي تترتب عليها.. لقد جعلني ما نعتنا بعضنا به أحاكم هذيان الساسة ورجال الدين، أعيد حساباتي وعلى ضوئها أرتب أبجدياتي وأيديلوجياتي من جديد، ولأول مرة بحق.. فكرت بما يمكن للسياسة أن تصنع وما يتوالد منها إذا انغمست في الدين، وبقدر ما للدين من أهمية في الحفاظ على الإنسان، إلّا أن له أيضاً جانباً أكثر ضرراً على حياة الإنسان إن هو استُخدِم بعقلية سياسي.
وجدت نفسي أعيد مناداتي بذات اللفظ لكن هذه المرة بروح مرحة وقناعة أكثر بخطأ ما لفظت.
من الجانب الآخر.. وراء أكياس ترابية، يجيبني بذات اللفظ الذي نعتني به سابقاً.
لم أعتب عليه بما نعتني، فالدفاع عن الذات هو الدافع للهجوم أياً كان نوعه.
دوافع الرغبة تجعل الإنسان يطلب حاجاته دون وعي.. هكذا وجدتُني أطلب منه وريقات القات.
بعفوية الإنسان الفطري نقي الجوهر: نعم معي، إذا أردت؛ فتعال.
في ذات الوقت جعلني أتوجس منه، الخوف هو ما يدفعنا لاشتهاء الرصاص، وطبيعي أن أخاف، فنحن في حرب أولاً، وعدو يشترط ذهابي إليه للحصول على ما طلبت ثانياً، وعقل وقلب يتنازعاني بين المشاعر والهواجس..
لا أعرف بما يفكر هو، لكنني أعرف بما أفكر.. ربما يستدرجني أو ربما يختبر معنوياتي.. المهم أن النوايا السيئة دوماً تجعلنا نفكر بالسيئ دائماً.
– تعال أنت.. أجبت عليه ورميت الكرة في ملعبه، أحسست أنني انتصرت بردي عليه.
– أخاف أن تقتلني!
يا إلهي.. لِمَ وضعتني في هذه الحرب القذرة؟! ما الذنب الذي ارتكبته لتعذبني بهذا الكم من الوجع.
لقد أرهقني جوابه إلى الحد الذي غرقتُ بالدموع، في كل مرة ينتصر عليّ بفطرته.. هكذا هو القلب.. وحده النبي الصادق في زمن الكذب والخداع.
– حسناً.. ارمِ القات إلى هنا وكفى.
– سأفعل.
رماها لكنها لم تصل.. سقطت في منتصف الطريق.. أيقنت أن هذه الصعوبات والمشكلات تؤسس لشيء استثنائي.. لشيء يغير منظومة الداخل رأساً على عقب.
– لقد سقطت في المنتصف، ولم تصل إليَّ.
– اخرج خذها.
– من يضمن لي إن خرجت أنك لن تقتلني.
– سآتي لأخذها إليك، لكن لنتعاهد أولا بألّا يُصيب أحدنا الآخر بأذى.
وبعد أن تعاهدنا أخذ القات وأقبل.. جلس بجانبي، فتى في العشرينات.. ملامحه عليها طيبة ساهرة.. بلهجته الهمدانية حدثني بشغف حين سألته عن اسمه أجابني بكنيته كما هو المعتاد في أبجديات التنظيمات الدينية.
– هل أنت متزوج؟
– لا لم أتزوج بعد.. ربما بعد العودة من الجبهة سأحصل على مكافأة من "السيد".
برهة من الحيرة تفصل بين حديثاً وآخر.. تتلاطم خلالها أسئلة تبحث عن إجابة دافئة شافية.. كسرنا الشرود والحيرة بتناول أغصان القات علّها تخلق حديثاً يبدد هذا الهذيان الذي نحن فيه، تبادلنا أطراف الحديث عن الشؤون الحياتية، أخبرني بأنه ليس مقتنعاً بما هو عليه وكذلك أنا..
– الشيء الوحيد الذي يمكن الجزم بأنني أمتلكه هو أنني لا أمتلك شيئاً، أنا فقير وهذا ما دفعني لخوض الحرب، أضف إلى ذلك إلحاح والدي المستمر لالتحاقي بجبهات القتال والذي يراه من منظوره بأنه عمل وطني، وعار على شخص مثل والدي التخلي عن وطنه امتثالاً لأوامر الزعيم ونصرة لآل النبي.
استمعت إليه بدهشة وخشوع ثم توقف فجأة وسألني:
– وأنت ما الذي دفعك للحرب.
– الحرب هي من دفعتني للحرب ولا سبب غيرها.. أجبرتني على خوضها.. فللحرب فلسفتها.. إن لم تصبح جلاداً ستصبح ضحية سواء كنت في ساحة القتال أو في غرفة نومك.. وعليك أن تكون ضحية جيدة لها في غرفة نومك أو مقاوماً رائعاً في ساحة القتال.. وأنا اخترت الثانية رغم مرارتها، لكنني على الأقل سأعرقلها من الوصول إلى أسرتي بعض الوقت.. أصنع لهم فرصة للحياة يوماً آخر..
أخرج علبة السجائر من جيبه، أشعل إحداها، عدلت من جلستي، خفية أطالع وجهه، قرأت فيه أنه يحب الحياة كما أنا أكره الموت، مد يده بعلبة السجائر: دخّن، فربما هي الوحيدة التي تحترق من أجلنا.
ضحكت لحديثه الممتع والمرتبك في آن واعتذرت بأنني لا أدخن.
أدار وجهه وهو يتمتم بأمنية شاحبة: ما أتمناه هو أن تُحسم المعركة لصالحكم ويعود كل منا إلى بيته ووظيفته وأحلامه، أتمنى أن تنتصر الابتسامة التي تضع قوانين الحرب.
– حقاً.. إنها أمنيات سامية، ولا بد من وجودها يوماً بأرض الواقع، أما أنا يا صديقي فأتمنى أن نصبح أصدقاء إلى الأبد.
نشوة القات أدخلتنا شرودا طويلا وصمتا مطبقا.. فجأة تحدث:
– أفكر بما سأواجه الغد؟ وهل بالإمكان أن يمر اليوم وأقابله قبل أن تأتي الطيور الفولاذية لالتقاط روح إنسان؟ إذا عاد الأمس ماذا سنفعل؟
– سنغني.
عند سفح الجبل، داهمتني الخيالات عن هذيانات الانتهازيين، ودارت بخلدي أفكار الانعتاق للحياة.. غادر صديقي، وبدأت أكتب "ليست الحرب أبشع حالات الإنسان".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.