تونس: نجاح نسبي بعد مرور 5 سنوات على الربيع العربي

لذا لا يمكن الاكتفاء بقراءة المشهد العربي في النقطة الراهنة لأننا إزاء قصة غير مكتملة الأطوار، ما هو معلوم فيها أنها لن تعود الى ما كانت عليه في الماضي. إن ما نشهده اليوم في الحقيقة ليس انهياراً للربيع العربي بل انحساراً لموجة أولى ستتبعها موجات أخرى أشد قوة وشراسة وتصميماً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/17 الساعة 07:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/17 الساعة 07:59 بتوقيت غرينتش

انتشرت الشعلة التي انطلقت من سيدي بوزيد في وسط تونس إلى بلدان عربية أخرى بدا وكأن العرب خرجوا أخيراً من النفق المظلم الذين أُجبروا على البقاء فيه على مدى عقود متتالية. ولكن بدلاً من فَجر التحرر والتقدم المرجو وجدت الشعوب المنتفضة نفسها في جحيم من الفوضى والحرب الأهلية والدكتاتورية العسكرية المتوحشة.
اليوم، بعد خمس سنوات من انفجاره الفجائي، يحق لنا أن نسأل: ما الذي بقي مما بات يعرف بـ"الربيع العربي"؟

بدأ المسار الانحداري للربيع العربي أولاً في الساحة السورية بسبب قدرة النظام على اللعب على الورقة الطائفية وتجييش الأقلية العلوية في مواجهة الأغلبية السنية، فضلاً عن دخول لاعبين إقليميين ودوليين لصالح نظام بشار الأسد.

راهنت بعض دول الخليج على الإطاحة بالتجارب الديمقراطية الوليدة وإشاعة مُناخ الفوضى عبر ضخ الأموال ودعم القوى المناوئة والغاضبة، وأتيح لها تنفيذ خطتها في مصر بانقلاب السيسي على حكومة مرسي المنتخبة، وهو انقلاب ما كَان له أن يحصل أو أن يستمر من دون الدعم المالي الخليجي السخي.

كما نجح نادي الاستبداد العربي في بث الفوضى في ليبيا من خلال دعم الجنرال حفتر المتحالف مع رجالات القذافي والذي يهيمن على حكومة طبرق الموالية لمصر السيسي والخليجيين.
أما في اليمن فقد عملت دُوَل الخليج كل ما في وسعها على حماية علي عبدالله صالح وإعادة موقعته في المشهد السياسي اليمني لإضعاف جبهة الثوار، قبل أن ينقلب عليها ويتحالف مع خصومها الحوثيين فيما بعد، ما جعل المعادلة اليمنية تنقلب على المعسكر الخليجي، خصوصاً بعد دخول إيران على الخط لممارسة ضغط على دول الخليج.

وحتى تونس ما كان لها أن تتجنب المصير المأساوي لبقية دول الربيع الأوروبي لولا قطع الطريق على الاستراتيجية الانقلابية من خلال عقد شراكة وتوافق بين النهضة ذات التوجهات الإسلامية وحزب النداء المنحدر أساساً من النَّظَّام القديم.

نجح التونسيون في سن دستور توافقي يعتبر الأكثر تقدمية في المنطقة كما تمكنوا من تنظيم انتخابات برلمانية حرة ونزيهة نسبياً في سنة ٢٠١٤ ومن بعدها انتخابات رئاسية، وشكّلوا فيما بعد حكومة ائتلاف تضم أربعة أحزاب رئيسية وفي مقدمتها الحزبان الرئيسيان النهضة والنداء.

شقت تونس طريقها بمشقة في خضم الفوضى التي انحدرت فيها دول الربيع العربي بفضل وحدة نسيجها المجتمعي وخلوّه من الانقسامات الطائفية والدينية، بما يسمح للانقسامات السياسية بالبقاء في الدائرة السياسية المدنية وعدم التحول الى انقسامات طائفية أو إثنية كما هو الأمر في بلدان عربية كثيرة.
الى جانب غياب تقاليد تدخلية عسكرية، خلافاً للدولة المصرية مثلاً التي ظلت رهينة الجيش منذ محمد علي في القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

فقد راهن بورقيبة رغم طابعه الأبوي والتحكمي على إبعاد الجيش عن السياسة خشية تكرار تجارب الحكم العسكري في المشرق العربي، خصوصاً في سوريا والعراق البعثيين ومصر عبدالناصر، فضلاً عن وجود مجتمع مدني نشيط ومستقل قادر على المساهمة في مد جسور الحوار بين مختلف المكونات السياسية خلال الأزمات السياسية.

ربما كان العامل الحاسم في عدم انزلاق التجربة التونسية للصراعات الدامية التي أفضت إليها مثيلاتها في المنطقة هو عقلانية الفاعلين السياسيين واستعدادهم لعقد الوفاقات والمساومات السياسية وعدم الذهاب بحالة الاستقطاب السياسي الى حده الأقصى.

فحينما دخلت تونس أتون أزمة سياسية خطيرة إثر اغتيال معارضين سياسيين ودخول السلاح لأول مرة في مجال السياسة التونسية سنة ٢٠١٢، أقدمت حركة النهضة على خطوة كبيرة وغير مسبوقة تتمثل في التنازل عن الحكم لصالح حكومة تكنوقراط رغم أنها كانت تتمتع بشرعية انتخابية لا غبار عليها (انتخابات ٢٣ أكتوبر ٢٠١١).

وكان الشرط الرئيسي الذي وضعه الحزب لتصبح هذه الصفقة نافذة هو إكمال كتابة الدستور والذي تم تعليقه عندما حاصرت المعارضة المجلس التأسيسي في 26 يوليو/ تموز 2013 وتحديد تاريخ للانتخابات رئاسية وتشريعية لإنهاء المرحلة الانتقالية المليئة بالاضطرابات.

بدأ هذا المسار بعد اللقاء التاريخي الذي تم في باريس بين راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، والباجي قايد السبسي الذي كان يتزعم المعارضة حينها في باريس في 15أغسطس/آب 20013،حيث تم الاتفاق على خارطة طريق تم بموجبها حل الأزمة السياسية والذهاب للانتخابات.

أدرك التيار الإسلامي الديمقراطي في تونس بقيادة النهضة أن بناء ديمقراطية وليدة وفي مرحلة انتقالية معقدة يقتضي تجنب منطق الأغلبية والأقلية وبناء أوسع قاعدة ممكنة للحكم من خلال ما يمكن تسميته بفن التوصيات والتسويات السياسية.

هذا ما نجح فيه التونسيون وجنبهم المصير المأساوي للحرب الأهلية في ليبيا المجاورة، وعودة التسلط والاستبداد السياسي كما حدث في مصر. أي أن خيار التسويات هذا هو ما مكّن التونسيين من التغلب على إكراهات الجغرافيا من حولهم.

ورغم أن هذا المسار لم يخلُ من عدة سلبيات، ومن ذلك انه أتاح الفرصة لإعادة تموقع رجالات النظام القديم عبر صندوق الاقتراع من خلال التخلي عن قانون تحصين الثورة بناءً على تقييم النهضة السلبي لحالات مماثلة في ليبيا مع قانون العزل السياسي أو العراق، وتجربة اجتثاث البعث التي رأت أنها ساهمت بشكل كبير في الدفع باتجاه الحرب الأهلية.

إلا أن ما لا يمكن إنكاره أيضاً هو إعادة هندسة منظومة سياسية جديدة على النحو الذي رسمه الدستور الجديد ومن أهم ملامحها توزيع السلطة وتوفير آليات الرقابة السياسية وضمانات للحريات وهي إحدى أهم المكتسبات التي أتت بها الثورة.

هذا التوجه كان الخيار الأفضل بين هو متاح، او في الحد الأدنى الأقل سوءاً ضمن معطيات الجغرافيا السياسية في المنطقة. والأكيد هو أن المعادلة السياسية الجديدة في تونس تعكس التوازنات القائمة على أرض الواقع بين القوى القديمة والقوى الجديدة التي أتت بها الثورة.
فلا القوى الجديدة قدرت على إلغاء سيطرة القوى القديمة على مؤسسات النفوذ والإدارة والمال والإعلام ولا القديمة تمكنت من الانفراد بالمشهد مرة أخرى واستعادة المساحات التي افتكها خصومها بفعل الثورة.

لا شك ان الموجة الاولى من الربيع العربي قد تم كسرها على نحو او آخر نتيجة بعض الأخطاء الداخلية التي ارتكبتها القوى الجديدة بما في ذلك الاخوان المسلمون في مصر، ومن ذلك عجزهم عن عقد تحالفات سياسية جبهوية وتشريك القوى الشبابية لمحاصرة سلطة الجيش.

ولكن أيضاً بسبب عامل آخر كان أكثر حسماً وتأثيراً وهو التدخل الخليجي القوي الذي راهن على تخريب تجربة الربيع العربي خشية انتشار العدوى بغية تأكيد السردية الأزلية وهي أن الديمقراطية لا تصلح للعالم العربي متذرعين بأكاذيب الخصوصيات الدينية والثقافية.

ماذا بقي من الربيع العربي اليوم؟ على المستوى الفزيائي الملموس بقيت تونس. ولكن ليس هذا كل ما تبقى. الشعور بالظلم والذل والقهر الذي فجّر الاحتجاجات الحاشدة التي عمّت أرجاء العالم العربي بقي بل ازداد عمقا وحدة.

لذا لا يمكن الاكتفاء بقراءة المشهد العربي في النقطة الراهنة لأننا إزاء قصة غير مكتملة الأطوار، ما هو معلوم فيها أنها لن تعود الى ما كانت عليه في الماضي. أما المراهنة على عودة الاستقرار من خلال رجوع الحكم الاستبدادي المتخلف وصنع بن علي ومبارك وقذافي جديد يعيد "استقراراً" انكشف زيفه وهشاشته في ٢٠١١ مراهنة على سراب واهٍ لا أكثر.

إن ما نشهده اليوم في الحقيقة ليس انهياراً للربيع العربي بل انحساراً لموجة أولى ستتبعها موجات أخرى أشد قوة وشراسة وتصميماً.

المقال مترجم بتصرف عن اللغة الإنجليزية.. النسخة الأصلية موجودة هنا

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد