يحكى أن : رهاب مفترق الطرق

تعلمت أنه ليس من العار ألا أعرف ماذا أريد، لكن يتحتم علي أن أحدد طريقة ما حتى أعرف ما تريد، وأن علي ألا أخشى التجربة، بل أخوضها بقلب شجاع، فإذا ما هزمتُ أو أخفقتُ تحققتْ المعرفة، وتأكدتُ أن ليس هذا هو الطريق، فأبحث عن غيره.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/15 الساعة 08:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/15 الساعة 08:16 بتوقيت غرينتش

رغم أن المشهد يبدو لي وكأنه وراء ضباب إلا أنني أتذكره جيدًا، كانت القاعة مزدحمة للغاية بأولياء الأمور الذين جاؤوا لمشاهدة أبنائهم وهم يقدمون عرضًا مسرحيًا، دخان المدخنين وضجيج الحضور يملآن المكان، واللمبات الصفراء تزين سقف القاعة.

كان ذلك في أوائل الستينيات، لا أتذكر إن كان عمري حينها ثماني سنوات أو تسع، لكن أذكر جيدًا أن مدرستي اختارتني لأقوم بدور الفلاح مع تلاميذ آخرين في مشهد تمثيلي عن السخرة التي تعرض لها المصريون في حفر قناة السويس، وبالطبع كنا في زمن عبد الناصر.

كنت أرتدي نظارة سميكة، ولما كنت أقوم بدور الفلاح فقد نزعوها فجأة عني قبيل بدء المشهد، فاختلطت كل الأشياء أمامي، لكني اندمجت في الدور، ويبدو أن زميلي اندمج أيضًا في دوره فأخذ يصرخ وهو يتعرض لسياط الإقطاعي الذي كان يلهب ظهور الفلاحين والعمال لحثهم على الحفر، زميلي زاد من صراخه، فخرجت عن النص وخرجت عن طوعي ، وتركتُ الفأس من يديَّ وهجمتُ على المعتدي دفاعا عن زميلي!

ارتبك زملائي الذين يؤدون أدوارهم في المسرحية، وارتبكت المدرسة واضطرت أن تتدخل لتخرجني من على المسرح، فيما أنا في أوج حماسي ثائرًا ضد الذين يستعبدوننا، أما القاعة فقد غُصّت بضحك لم أفهم سببه، وانتهت بذلك كل آمالي في التمثيل.

لكن ذلك لم يمنعني من تجربة حظي في الغناء، هذه المرة وأنا في مقتبل دراستي الثانوية، وقد كنت أتردد على قصر الثقافة بطنطا حيث كانت هجرتي من السويس، وقد اخترت الغناء التراثي، دخلت القاعة متأخرًا بعض الشيء، وجلست في آخر المجلس، وقد وجدت المعلم العجوز يجلس أمام بيانو عتيق يغني وتغني وراءه الجوقة طقطوقة "يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح".

كان العزف والغناء ينساب عذبًا جميلًا، لكن المدرس توقف للحظات والتفت إلى الخلف ينظر إلينا، ثم عاد يستكمل، ثم كررها مرة ثانية، ثم كررها ثالثة فيما لو كان باحثًا عن خطب ما أو صوت نشاز، فإذا بمساعده يصيح وهو يشير لي "من هنا يا أستاذ من هنا".

لم أستسلم، وقد شعرت أن مستقبلي الحقيقي سيكون في الموسيقى، وهرعت إلى تعلم عزف الكمان، وأجبرت أسرتي يومًا أن تجلس لأدهشها بموهبتي الحقيقية، وبدأت العزف وما أن انتهيت حتى قيل لي "كويس كويس بس مش كان أحسن تتعلم قطعة موسيقية شهيرة"، فاندهشت أنا، فقد بات واضحًا أن لا علاقة بين الأصوات التي كانت تصدر من "كماني" وبين أغنية أم كلثوم الشهيرة التي كنت أعتقد أنني أعزفها.

أنّبت نفسي على التورط في أمور لا أجيدها، وقلت لنفسي فلأبقى في مجال القراءات السياسية، ولما كنت على وشك دخول الجامعة، ولما نصحني الأصدقاء الشرفاء بضرورة التواصل مع الجنس اللطيف حتى لا تقع الواقعة حين ألج إلى الجامعة، لذا قررت أن أضرب عصفورين بحجر واحد، ألتقى فتاة قابلتها صدفة في إحدى النشاطات الثقافية، وأحدثها في السياسة !

في حديقة المنتزه بطنطا، وفي مقهى يتوسطها ذهبتُ تدفعني فكرة الصداقة بين الجنسين إلى حيث وجدت الفتاة تنتظر، كانت حولنا – والوقت قبل المغرب- ثنائيات كثيرة لم أفهم أمرها في البداية، وبعد السلامات والتحيات انطلقت في الحديث معها عن التحديات التي تواجه الثورة ودور الجماهير المأمول ، وانعرج الحديث – طبعًا من جهتي- عن السد العالي هذا المشروع الطموح الذي يتحدى به عبد الناصر قوى الاستعمار العالمي.

كانت المسكينة تنصت بدهشة، وكلما حاولت هي تغيير اتجاه الحديث لا أجد في جعبتي ما يلائم حديثها، فاستمر خطيبا عن سياسات عدم الانحياز ومؤامرات الاستعمار وحتمية وحدة العالم العربي، وهو نفس المشهد تقريبًا الذي شاهدته لاحقًا في فيلم لنور الشريف.

وما إن بدأت الشمس في الغروب إلا وقمتُ مسرعًا كمن لسعه عقرب لنغادر المكان، فيما الهدوء والظلمة بدأتا تسودانه، وقد لاحظت أن الآخرين حولنا والأخريات بدأوا يقتربون من بعضهم البعض وهو الأمر الذي لم أجد له تفسيرًا، خصوصا وأن الكفاح من أجل السد العالي لم يكن بحاجة أبدًا إلى هذا النوع من التلاحم، وبالطبع لم تتواصل معي هذه الفتاة مرة أخرى مطلقا.

كنت أنتظر الصيف حتى أقضي معظم نهاره ولياليه عضوًا نشطًا بمنظمة الشباب الاشتراكي، التابعة إلى التنظيم الوحيد في الدولة حينذاك وهو الاتحاد الاشتراكي العربي، ولا أكون مبالغًا إذا قلت أن معظم قيادات الحركة الوطنية والإسلامية في مصر تخرجت من هذا التنظيم الذي بدأ عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين واستمر رسميًا حتي عام ستة وسبعين، وأظن أننا بحاجة إلى دراسة هذه التجربة بسيئاتها وحساناتها خصوصًا أن هذه المنظمة قد استطاعت إلى حد ما أن تضم تيارات وروافد فكرية متعددة حتى الإسلامية منها.

في المخيم الصيفي بصحراء حلوان تقضي أسبوعين من الدراسة المكثفة، نظريات سياسية، وحلقات نقاشية، وتدريبات على مهارات متعددة، كإدارة الندوات والخطابة والتأثير في الجماهير وغيرها، فضلًا عن الأنشطة الثقافية عندما يحل المساء.

أول يوم يقولون لك قل ما شئت واكتب ما شئت، حتى ضد جمال عبد الناصر نفسه، يصدق الشباب المخلص المتحمس، تنطلق الخطابات النارية، وتعلق مجلات الحائط هنا وهناك في هذا المعسكر المغلق، وفي آخر يوم يحذرونك: أنت تعرف أن الشارع في الخارج ليس مهيئًا بعد لهذه الممارسات الديمقراطية، خصوصًا وأن الوطن يمر بمرحلة حرجة، والمؤامرات تُحاك ضده، لذا إياك أن تنتقد النظام في الخارج. يذعن الجميع للنظام الذي كشف بهذا التصرف من هو معه ومن هو متبرم منه.

كنت تابعًا لمنظمة شباب السويس لكن لفرعها في الغربية حيث كانت هجرتي، وكانت أنشطتنا تتم أحيانًا وحدنا وأحيانا بالتنسيق مع فروع أخرى، حيث فاعليات متعددة، ثقافية وأدبية، وبالطبع محاضرات وندوات وحلقات نقاشية مرورًا بالمخيمات الصيفية التي كنا نقضيها في الإسكندرية، ونختتمها بالشعر والزجل وأغاني السمسمية.

كانت هناك سجالات لا تهدأ بين النخب الشبابية، وكان هناك مشاكسون كثر، يعلنون صراحة رفضهم لكل أمراض النظام التي امتدت إلى المنظمة، الشللية والمحسوبية والنفاق السياسي وتجسس الناس على بعضهم البعض.

لكن بالنسبة لي كانت تجربة سياسية سخية جدًا، وممتعة جدًا، وأطول من تجارب التمثيل والموسيقى والغناء، لكن حتى هذه التجارب كانت ضرورية، فعندما نفكر في مستقبلنا وماذا سنكون نقف حائرين عند مفترق الطرق، علينا أن نختار إحداها دون أن تكون لنا سابق معرفة بأي منها، دون أن نجربها، دون أن نذوق طعمها، دون أن نختبر موقفنا منها، فنصبح مثل الذي يلعب ملك وكتابة.

تعلمت أنه ليس من العار ألا أعرف ماذا أريد، لكن يتحتم علي أن أحدد طريقة ما حتى أعرف ما تريد، وأن علي ألا أخشى التجربة، بل أخوضها بقلب شجاع، فإذا ما هزمتُ أو أخفقتُ تحققتْ المعرفة، وتأكدتُ أن ليس هذا هو الطريق، فأبحث عن غيره.

وقد سألت نفسي مرارًا لماذا هناك دائمًا ومهما كبرنا مفترق طريق؟ وهل تحتمل الحياة ذلك كله؟ أظنها كذلك، بل أظن أن لذتها في هذه التجارب.

نسيت أن أحكي لكم أنني قررت وأنا في الشهادة الإبتدائية أن أكون صحفيًا، وقد تعددت بي السبل قبل أن أصل مرادي وأتعداه إلى العمل التلفزيوني وصناعة الأفلام الوثائقية، والله أعلم هل لا يزال في العمر مفترق طريق آخر؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد