مضايا.. تحب الحياة إذا ما استطاعت إليها سبيلاً

فحتى وإن كان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية واللجنة الدولية للصليب الأحمر قد أعلنا تلقيهما موافقة الحكومة السورية الخميس على إدخال مساعدات إنسانية في أقرب وقت، إلا أن حصيلة ما جرى في مضايا كافية لتكون وصمة عار على جدار تاريخنا.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/15 الساعة 03:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/15 الساعة 03:07 بتوقيت غرينتش

"يا عمي بدي قلك شغلة بس مستحي.. يا عمو صارلنا والله هَيْ شي ثلاث أيام ما أكلنا، إذا بتقدر تعطينا شي لأنا لسا صغار.. طعميني يوم بس.."، بهذه العبارات وبصوت مرتعد وعينان جاحظتان، طلب طفل من بلدة مضايا المحاصرة طعاما من مصوره الذي لم يجد ما يجود به عليه..

انتشر هذا الشريط تحت عنوان "طفل من مضايا المحاصرة" إضافة إلى أشرطة أخرى على موقع اليوتيوب لإخبار العالم بما يعانيه أهالي مضايا بعد خمسة أشهر من الحصار وقطع خطوط التموين والإمداد. لكن قول الشاعر: "لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي" فرض نفسه بامتياز.

عشرات الصور والشرائط غزت مواقع التواصل الاجتماعي لأجساد نحيلة منها من أسلم روحه ومنها ما يزال يكابد ويصارع الموت جوعا. فلماذا مضايا بالذات؟ وما هو حجم الكارثة التي هي كجبل الجليد العائم لا يظهر لنا منها إلا ما على السطح؟ وأي انتكاسة لمجتمع دولي أقل ما يقال عنه إنه مشارك في الجريمة؟

مضايا.. وفاء ومقاومة

هنا مضايا تلك البلدة الصغيرة الواقعة شمال غرب دمشق والتي تحضن أزيد من 40 ألف نسمة بين سكان ونازحين، هنا حيث رُفع واحد من أوائل مشاعل الثورة السورية وارتفعت معها أول أصوات المطالبين بإسقاط النظام.

توالت الأحداث على مضايا التي شهدت مقاومة عنيفة وأبت أن تخضع على الرغم من عمليات القتل والتدمير الممنهجة التي مارسها النظام السوري مدعوما بعناصر مسلحة من حزب الله اللبناني من أجل إنهاء وجود الجيش الحر بها كونها منطقة إستراتيجية مهمة عسكرياً وجغرافياً ولتأمين الحدود مع لبنان.

إلا أنه على الرغم من تدخل أزيد من 30 ألف جندي نظامي مدججين بخمسين دبابة و9 قطع مدفعية إضافة إلى 300 من عناصر الحزب الشيعي -حسب معطيات المرصد السوري لحقوق الإنسان- حققت المقاومة انتصارا عريضا في معركة السهل تلاها قصف عشوائي للبلدة تسبب في دمار كبير، لكن بعد تهديد الجيش الحر بقصف منشآت حيوية للنظام في أماكن سيطرته، اتفق الطرفان على الانسحاب من مضايا حقنا للدماء.

ولأن النظام المجرم لا دين ولا عهد له، وحتى ينتقم من الأهالي الذين رحبوا مرارا بتواجد الجيش الحر بينهم، بل إنه انضم الكثير من أبنائهم لفصائله المقاومة، استمرت مضايقته للمدينة ومحاولاته السيطرة عليها تارة عبر إلقاء عشوائي للبراميل المتفجرة التي تسببت في ارتقاء مئات الشهداء وتدمير عشرات المنازل، وتارة أخرى عبر قطع خطوط التموين الأساسية مما أدى إلى نقص حاد في الدواء والغذاء انتهى بتفشي المجاعة والأمراض وحلول كارثة إنسانية على المستوى الداخلي، وأخرى أخلاقية على الصعيد الخارجي.

مضايا.. الكارثة الإنسانية

"مضايا تحولت إلى سجن كبير مفتوح يضم الآلاف من الجوعى".. أطباء بلا حدود
فر أزيد من أربعة ملايين سوري خارج البلاد نجاة بأنفسهم، ومن تبقى داخلها منهم من قضى بالرصاص أو تحت ركام منازل هوت عليها براميل الدمار ومنهم من تذوق طعم الموت اختناقا بالغازات السامة، ومنهم أيضا من عاش موتا أبطأ تحت وطأة جوع استمر شهورا..

"الجوع أو الركوع"، كانت هذه إحدى العبارات التي كتبتها قوات النظام السوري على جدار إحدى البلدات وكانت مضايا أول من يجرب الاختبار بعد أن حاصرت قوات النظام وحزب الله اللبناني كل مداخل المدينة ولغمت الطوق المحاذي لها لتمنع دخول أي مساعدة أو تموين..

اختفى الطعام من مضايا فاضطر الأهالي، بعد أن نسوا طعم الخبز، إلى طبخ أوراق الشجر حتى المسمومة منها، وذبح القطط والكلاب بعد أن أجاز لهم أهل الفتوى الاقتيات عليها للبقاء على قيد الحياة، فلا يستطيع الجميع شراء المواد الأساسية التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني، بحيث بلغ سعر الوجبة العائلية الواحدة 200 دولار أميركي.

أجبر رُضّع مضايا على التأقلم المبكر مع مذاق عصير الطماطم الفاسدة والماء المغلي مع القليل من المربى، وذلك بعد أن قفز سعر اللتر الواحد من الحليب من 1 دولار إلى 40 دولار، فيما مات الكثير من البالغين بعدما أصبح كيلو الأرز بـ130 دولارا بدل الدولارين ورغيف الخبز بـ20 دولارا عوض 0.1 دولار.

وأمام هذه الأسعار لا يسعنا إلا أن نذكر قصة الشهيد محمد علي خريطة (أبو هيثم) الذي نزح إلى مضايا قادما من الزبداني هربا من براميل الموت، وتوفي جوعا بعد أن عرض سيارته للبيع مقابل 10 كيلو أرز أو 5 كيلو حليب نيدو!

امتلأت العيادات بحالات الإغماء بسبب فرط الجوع وخصوصا في صفوف الأطفال وكبار السن، فلم يجد الأطباء غير محلول الماء والسكر والملح لإبقائهم على قيد الحياة إلى أجل غير مسمى. فمن يشاهد شوارع مضايا وهي ملأى بأناس يمشون كالسكارى يخال نفسه في مسلسل The walking dead، لكن الحقيقة أن الأقدام وهنت وما عادت تستطيع حمل أجسادها.
لكن على الرغم من كل هذه الويلات، صبر الأهالي على الجوع، وأبوا الركوع!

مضايا .. الكارثة الأخلاقية

"حصار حزب الله والنظام السوري لمضايا أقذر أسلوب في التاريخ لتركيع المدنيين العزل وتهجيرهم من أرضهم". الكاتبة اللبنانية الشيعية فايزة دياب
اختزلت في مضايا معاناة الشعب السوري واجتمعت فيها كل أشكال الموت، فما هي إلا امتداد لبراميل ريف حلب الشمالي وكيماوي الغوطة الشرقية انتهاء بجوع مخيم اليرموك الذي توج به النظام سلسلة جرائم ترتكب وسط صمت دولي مطبق.

لم يكترث المجتمع الدولي لصرخات الجياع، حتى بعد نواقيس الخطر التي دقتها المنظمات الإنسانية والحقوقية في مضايا قبل أشهر بعدما أعلنها النظام السوري "منطقة منزوعة الطعام" لأن الحسابات تعددت والمصالح تعارضت وتضاربت.

سواء من الجانب العربي أو الغربي، وكيلت القضية بمكيالين فعلق الكاتب المصري "أنس حسن" قائلا في إحدى منشوراته على موقع الفيسبوك:
"ببساطة تستطيع طائرات التحالف الغربي إلقاء المساعدات الغذائية فوق ‫‏مضايا‬ السورية، مثلما تستطيع بالضبط إلقاء القنابل فوق تنظيم الدولة!

طائرة واحدة محملة بالمساعدات الغذائية قد تحل مجاعة مضايا، لكن طائراتهم لا تعرف سوى القصف ولا تبحث عن الإنسان ولا عن معاناته، بل عن مصالحهم، في سنجار‬ قامت طائرات التحالف بإلقاء المساعدات للأزيديين، في حين تعجز طائراته عن إلقاء شنطة غذاء واحدة فوق مضايا السورية".

فحتى وإن كان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية واللجنة الدولية للصليب الأحمر قد أعلنا تلقيهما موافقة الحكومة السورية الخميس على إدخال مساعدات إنسانية في أقرب وقت، إلا أن حصيلة ما جرى في مضايا كافية لتكون وصمة عار على جدار تاريخنا، بحيث لم يكن جمود المجتمع الدولي من قلة في الموارد، فالدول الغربية تتخلص سنويا من أطنان المواد الغذائية بإلقائها في البحر من أجل موازنة العرض والطلب في السوق، ولا من عجز في طريقة إيصاله لمضايا، لكن العالم حقيقة يعاني أزمة أخلاق تطفو على السطح كلما نادى مستضعف "وا إنساناه"!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد