منذ 2012 ومصر بلا برلمان، لكن هذا الأسبوع انعقد لأول مرة منذ 4 سنوات البرلمان المصري بهيكله الجديد كلياً في آخر خطوة لإتمام ما يبدو أنه إعادة النظام الاستبدادي إلى مصر.
ومنذ يوليو 2013 عندما أطاح الانقلاب العسكري بشكل مباغت بالانتقال الديمقراطي الهشّ الذي تلا ثورة شعبية أطاحت بحسني مبارك، أعيد ترتيب مؤسسات الدولة تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة عبدالفتاح السيسي.
وبالطبع لم تتم هذه التغييرات من دون معارضة خارجية وفوضى داخلية، غير أن السيسي أحكم سيطرته رغم كل ذلك على زمام القوة وعلى دفة إدارة جميع مؤسسات الدولة.
وخطة السيسي المسماة"خارطة الطريق نحو الديمقراطية" والتي أذنت يوم الأحد بأداء يمين مجلس نواب جديد، بدأت بسحق كل المعارضة السياسية المستقلة الموجودة منذ الانقلاب العسكري عام 2013.
بادئاً بالإخوان المسلمين – أكبر وأقوى حركة اجتماعية تولّت قيادة البلاد بعد مبارك عندما فازت بسلسلة انتخابات واستفتاءات – أظهر السيسي أنه لا ينوي الاستمرار في ترك ساحة المجال السياسي مفتوحة أمام كل منافس يظهر في الميدان.
الانتقال السياسي بعد الانقلاب
اعتقل الجيش محمد مرسي، أول رئيس مصري منتخب انتخاباً حراً، كما حظر حزبه السياسي، واُعتُقلت قيادات حزب الإخوان المسلمين بتهم تراوحت بين الخيانة والإرهاب.
كما دخلت قوات الأمن في مواجهات مع أنصار مرسي في كل أنحاء مصر، مما أسفر عن أحداث عنف واسعة النطاق شملت مذبحة بحق مئات المحتجين في ميدان رابعة العدوية في أغسطس/آب 2013.
بعدها كان للقضاء دور وإسهام كذلك في إعادة ترتيب المشهد السياسي في البلاد، حيث صادق على قرار حظر الإخوان المسلمين وجمّد ممتلكات الجماعة، ثم حكم على المئات من أعضائها بالإعدام. وفي حين هللت مجموعات معارضة أخرى للانقلاب وصفقت لمنجزاته، سرعان ما انقلب المد عليها ووجدت نفسها في وجه ثورة مضادة.
فقادة ما يسمى "جبهة الإنقاذ الوطني" – التي ظهرت كقوة معارضة لحكومة مرسي – وضعوا نصب أعينهم أن ينالوا حصة من الانتقال السياسي ما بعد الانقلاب، لكن أملهم خاب، بعد هجوم شنته وسائل الإعلام الحكومية شكك بولاء المجموعة لحكومة الانقلاب. ووجد محمد البرادعي، قائد جبهة الإنقاذ، نفسه وحيداً وانسحب إلى منفى طوعي في الخارج.
أما حمدين صباحي فأدى دور المرشح المعارض بكل أمانة أثناء انتخابات 2014 الرئاسية التي فاز بها السيسي بنسبة 96% قبل أن تُهمّش جميع أحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية، في حين أن أحزاباً ثورية مثل حركة شباب 6 إبريل خضعت مكرهة لأحكام وقوانين نظام الانقلاب الجديدة والتي تمنع التظاهرات العامة والاحتجاجات.
وبشكل عام ألقت قوات الأمن المصري القبض على أكثر من 40 ألف مصري، في موجة غير مسبوقة من القمع شجبتها جملة وتفصيلاً مجموعاتُ حقوق الإنسان العالمية.
وهكذا بعدما تخلص من كل أشكال المعارضة المستقلة داخل مصر، بات السيسي حراً ليغير المشهد السياسي في البلاد كما يحلو له وكما يراه مناسباً. غير أنه في الأشهر التي تلت ذلك، اكتشف أن بناء نظام استبدادي جديد على أطلال دكتاتورية مبارك الغابرة ليست مهمة سهلة أبداً.
مصر وسلطتها التشريعية الجديدة
خلال مراحل الانتقال الديمقراطي الثلاث أعلن السيسي بعد الانقلاب إقرار دستور جديد تليه انتخابات برلمانية ومن ثم رئاسية جديدة. لكنه عكس ترتيب هذه الانتخابات فيما بعد حيث ضمن كرسي الرئاسة لنفسه في مايو/أيار 2014 قبل أن يتفرغ لاحقاً لمسألة السلطة التشريعية الجديدة.
وتأجلت الانتخابات عدة مرات قبل أن تعقد أخيراً في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أما خلال الفترة الانتقالية المؤقتة، فقد اتخذ السيسي لنفسه السلطات الرئاسية والقضائية أيضاً فأصدر ما لا يقل عن 300 قانون في كل المواضيع، بدءاً من الحقوق المدنية ودعم الدولة لأسعار المنتجات، مروراً بمشاريع الدولة وهيكلة مجلس النواب نفسه.
أدرك السيسي لاحقاً أنه لا يمكن أن يعوّل على ظهور هيكل حزب سياسي جديد على نسق الحزب الديمقراطي الوطني الذي حكم مبارك البلاد من خلاله على مدى سنين طوال، ما دفعه لاعتماد هيكل أضعف، قوامُه مرشحون مستقلون.
ومن مقاعد البرلمان الجديد التي يبلغ عددها 596 مقعداً نرى 120 مقعداً فقط يشغلها مرشحو أحزاب (أي بالكاد خُمس المجلس)، أما البقية فذهبت كلها لمرشحين مستقلين، منهم 28 عينهم السيسي بنفسه مباشرة. حتى أن القيادة غيّرت كذلك نظام التصويت على قوائم الأحزاب لكي يكون للفائز بها حصة الأسد في شغل المقاعد، ما يعطي أحزاب المؤسسات حظوظاً أكبر.
وشهدت الانتخابات البرلمانية المكونة من مرحلتين تنافس المرشحين على مَنْ يبرز ولاءً أكثر للسيسي، ولا عجب أن نسبة مشاركة المواطنين في الانتخاب بلغت أدنى مستوياتها في تاريخ مصر الحديث.
وتألف المجلس الجديد في أغلبه من وجوه قديمة من النظام الأسبق، إضافة إلى حلفاء للسيسي ونخبة من رجال أعمال ذوي صلات وطيدة بالنظام الحاكم. أما الـ120 مقعداً المخصصة لنظام القوائم فقد فازت بها كلها قائمة ائتلاف السيسي "في حب مصر" المعدة خصيصاً للفوز بهذه المقاعد. ولعل انشقاقات أخيرة في بعض صفوف مؤيدي السيسي كشفت كيف تجري أمور القوة السياسية في مصر الجديدة.
انسجام داخلي
توفيق عكاشة، مذيع البرامج الحوارية الشهيرة والمؤيد العتيد للسيسي، حصل على أكبر نسبة أصوات، لكن إخفاق جهوده للتأهل لمنصب المتحدث باسم المجلس دفعه لينبري زاعماً أن القرارات الرئيسية بشأن البرلمان أتت جميعها مباشرة من جهاز المخابرات المصرية العامة الموالية للرئيس، والتي قيل إنها لعبت دوراً في تشكيل البرلمان الحالي المفكك والخالي من الانسجام الداخلي أو من وجود قوي للأحزاب.
أكد هذه الإشاعات حازم عبدالعظيم الذي سطع نجمه في عهد السيسي، ولعب دوراً أساسياً في حملته الانتخابية قبل أن يخبو هذا النجم، حيث نشر عبدالعظيم شهادته الشخصية عن حضوره عدة اجتماعات العام الماضي في مقر المخابرات المصرية.
وفي تلك الاجتماعات أشار مسؤولو الاستخبارات إلى أنهم ينتقون المرشحين المستقلين بأنفسهم للانتخابات القادمة، فضلاً عن هدفهم لتحقيق 400 مقعد في البرلمان، أي أغلبية ساحقة تصل إلى الثلثين كافية لسنّ أية إصلاحات تشريعية.
وسبحان الله، شاءت الأقدار في أول اقتراع لهذه الدورة الجديدة أن ينتخب البرلمان علي عبدالعال متحدثاً بواقع 401 صوت رشحه.
اتهم عبدالعظيم التدخل السافر للرئاسة في البرلمان الجديد بأنها استغلال غير عادل للسلطة فاق كل المعهود في تزوير الانتخابات الذي تشتهر به مصر في انتخاباتها. والواقع أن بروز دور مؤسسات وأجهزة الدولة في السياسة، إنما يشير إلى تحول كبير عن المكانة التقليدية للأحزاب مثل الحزب الديمقراطي الوطني ليصبح هذا التدخل قاعدة دعم سياسية لرئيس استبدادي متفرد بالسلطة.
أبدى السيسي عدم ثقته أبداً بالسياسة المصرية، فهدف لبناء مركز قوة بديل يستطيع تحريك خيوطه بعيداً عن أنظار الرأي العام. فمن بين المبادرات التشريعية المزمعة للبرلمان الجديد اتخاذها تمديدُ ولاية الرئيس من 4 إلى 6 سنوات، إضافة إلى مقترح بإلغاء الشرط الذي يقيّد الرئيس بولايتين رئاسيتين فقط.
وإضافة إلى كل هذا فالبرلمان الجديد منوط دستورياً بالمصادقة على جميع أوامر وقرارات السيسي التشريعية التي بلغت أكثر من 300 في مدة أقصاها 15 يوماً، ما سيجعل البرلمان الجديد مجرد أداة توافق وتصادق أوتوماتيكياً على قرارات الرئيس لإضفاء الشرعية عليها وإكسابها صفة ديمقراطية، في حين أنها الدكتاتورية عينها.
ومن هذه القرارات إلغاء الدعم الحكومي لأسعار السلع والمنتجات الأساسية اللازمة لقوت ملايين المصريين من الفقراء، كما تشمل زيادة في رواتب ضباط الجيش والقضاة.كما أن مبادرة رئيسية أخرى اتخذها السيسي كشفت اتفاقاً مثيراً للجدل وقّعه الربيع الماضي مع إثيوبيا بشأن حصة مصر من مياه النيل.
وبالرغم من أن البرلمان الجديد يتوقع منه المصادقة الرجعية وبكل حماس على الصفقة إلا أن تقارير أخيرة عن الأضرار التي سيلحقها الاتفاق بنصيب مصر من الماء تشي بأن مشاكل السيسي لن تقلّ، بل ستتزايد حتى لو ضمن الهيمنة على القوة السياسية كلها بين يديه.
للإطلاع على النسخة الأصلية للمقال باللغة الإنجليزية يرجى الضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.