"حين تعيق مجرى الدم في الشريان تكون السكتة، وحين تعيق مجرى النهر يكون الفيضان، وحين تعيق مستقبل شعب تكون الثورة"، الكلام هنا للكبير فيكتور هوجو، وهو كلام وإن جاء في سياق الرواية والطنب اللغوي إلا أنه يحمل نظرة تاريخية في القول ببداهة وقوع الثورة كحدث دوري في كينونة الإنسان.
متى تحصلت واجتمعت مسبباته كان الفعل الثوري حاضرا في أجوبة الشعوب، هوجو وفولتير ونيتشه ومونتيسكو وغيرهم تعاملوا مع الثورة كفعل معقول للتاريخ، أي أنهم يسلمون فلسفيا بالضرورة التاريخية وسير التاريخ في خط لا يحابي خصوصية أحد ويفعل فعله، خط سير يبحث عن الأسباب لإلقاء مزاحه الثقيل كما قال العظيم تروتسكي.
مبدئيا على كل باحث في موضوع الثورات وفلسفتها وتاريخها أن يقر بعجزه عن النظر الموضوعي الدقيق الشامل، فالتسليم بمعقولية الثورة لا ينفي عنها الاختلاف المجالي للإنسان وتنوع المسببات في البيئة القابلة لاحتضان الثورة واختلاف الأيديولوجيا وطبيعة الحكم القائم، فالتسليم هنا يتعلق بوجودها لا بمراحلها ومالها.
بحدوثها لا بحتمية النجاح أو الفشل فثورة إنجلترا المجيدة نجحت بتكلفة أقل من الثورة الفرنسية رغم تشابه محطات الفعل الثوري، والثورة التونسية مآلاتها مغايرة لما اتخذته الثورة الليبية أو السورية وهذا ما أكده الأميركي صاموئيل هنتيغون في كتابه "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة"، حيث يميز فيه كيف نظام الحكم يغير معطيات المجرى الثوري التاريخي وهو كتاب وإن صدر في الستينيات إلا أن نظرياته ما تزال مؤسسة للعمل السياسي في قرننا هذا.
إن ما حدث في بلدان الثورة عربها وعجمها أو في بلدان الشرارات كما سماها الدكتور أحمد البرقاوي هو تعبير طبيعي عن تناقض بنية المجتمع مع بنية الحكم، فالمجتمعات تميل عفويا للتطور المدني أو الفكري عكس السلطة التي يكون رهانها في بلدان الثورة هو الحفاظ على وجودها والتحكم في التطور الطبيعي للمجتمعات فتصبح قوى التحكم غير قادرة على الخنق أو الحجب لتطفو على سطح الوعي كل أشكال الكبت والقهر المجتمعي متبلورة في الحناجر بداية منتهية لمآلات أخرى.
هذا التفاوت البنيوي بين المجتمع والسلطة يحمل عدة ضروب من التشابه والتكامل، أولها أن بنية السلطة المتغلبة تكون إما عائلية أو طائفية أو عسكرية متحكمة في كل مخارج الاقتصاد ومداخل الجباية مكونة قوة قهر تغنيها عن الأغلبية المجتمعية وتستعين بها للتغطية على أقليتها.
ثم إن النظام القائم في الدول الشرارات غالبا ما يكون عمله الأساسي هو إفقاد المجتمع لملامحه المدنية وذلك لا يتم له إلا عبر بوابة هدم القوة الأخلاقية المجددة والمؤطرة للسلوكيات الكونية إلا وهي النخبة المثقفة، هوبز يقول إن المثقف عدو المستبد الأول وفصلها عبد الرحمان الكواكبي في طبائع الاستبداد وتعمق في وسائل الهدم التي ينهجها النظام السياسي المستبد في تجهيل الشعب ومحاربة المتنورين.
فبغياب النخبة المثقفة يغيب العقد الاجتماعي الضامن لسير المجتمع نحو الانعتاق، وفي كتاب روح القوانين عبر مونيسكيو أنه لا تقدم للحرية في غياب الفئة المثقفة وبغياب هذه الأخيرة يغيب القانون ويحل مكانه الهاجس فيشرع النظام في دول الثورة بتفكيك المجتمع وتحطيم معقولية وجوده وتحويله إلى أقليات، إما على أساس قبلي وطائفي كما في الدول العربية أو تفرعي ديني كما في عهد الحروب الدينية الأوروبية فيغيب المجتمع وتصبح أقلية السلطة هي المجتمع بالارتكان إلى قوة العتاد والفساد.
الأنظمة المستبدة جعلت من كل ممكن تاريخي مستحيلا عمليًا بل وكانت تقف في وجه كل تباشير المحاولات الفكرية للتنظير للفعل الإصلاحي، ففي الدول العربية بعد الاستعمار أصبح الإصلاح من جملة المستحيلات في ذهنية المجتمع، وفي أميركا اللاتينية أصبح التوحد المجتمعي غير ممكن.
وفي أوروبا الشرقية كان التخلص من تبعات حلف وارسو أمرا ثقيلا وكما يقول غاندي "كل فشل إصلاحي هو بفعل فاعل". والثورة في فلسفتها العامة تأتي لتعيد المستحيل إلى خانة الممكن وهنا تتجلى الضرورة والحتمية التاريخية في وجودها. اما مآلها فهو يبقى منوطا بوعي المجتمعات باللحظة التاريخية ومدى تأثرها بميكانيزمات الاستبداد ومدى تفشي أساليبه ونجاعته.
والمتتبع لتاريخ الثورات لا يخفى عليه أن المجتمعات وجدت صعوبات في استقبال الثورة والتعامل معها وقد بدا ذلك جليا في النموذج العربي لأن الذهنية العربية تستند إلى نموذج مثالي ديني في البناء الثوري (التمثل بعصر الخلافة الإسلامية)
فطرحت بدائل لا معقولة لحاجيات متغيرة وانعدمت الحكمة في التدبير لما بعد الثورة ولم ينصت لصوت العقل ودخل كثير بلاد في التضحيات المجانية المسببة لعودة النظام القديم بثياب جديدة وقناع مزين ببعض ابتسامات التغيير مستغلا غياب لغة تواصلية للمجتمع مع المتغيرات وعدم تعودها على الاختلاف والتدبير.
التاريخ ابن بار بالأمة التي تدرس أسبابه وتضع قوانين لروح العالم وسيره وتندمج مع المتغيرات وتتعامل مع الاختلاف (التشابه نزعة فاشية حسب تشومسكي) وتركن للرؤية العملية بدل الوعي الأيديولوجي التاريخي.
بعض الأمم عليها أن تقرر ترك بطولات الماضي لتصنع حاضرها والبعض الآخر عليه أن يترك جبن الماضي ليصنع تقدمه، العرب سجناء في الماضي واللاتينيون مهووسون بحروب إثبات نجاح اشتراكيتهم، ومشارقة أوروبا مدمنون على التبعية والعاقل هو من تنحى عن كل هذه الخطوط وطور بنية مجتمعه وسياسته، أما غير ذلك فسيستمر التاريخ في إرسال مزاحه ومزاح التاريخ ثقيل.. ثقيل جدا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.