لم تعد أهمية وسائل الإعلام تخفى على أحد، فمن يملكها يملك الهيمنة وصنع القرار، كيف لا وقد قيل منذ القدم: "أعطني إعلاماً بلا ضمير أُعطِك شعباً بلا وعي"، كدلالة على قوة فتك هذا السلاح الذي بات من السهل استخدامه في ظل ما نشهده من ثورات تكنولوجية سريعة ألبست الجميع ثوب المحرر.
لقد ازدحمت مجتمعاتنا العربية بقضايا شائكة اختلفت أنواعها كنتيجةٍ حتمية لوجودِ أنظمةٍ متآكلة، توجب على السلطة الرابعة أن تلعب دوراً مؤثراً في تشكيل الرأي العام من خلال فنونها المتنوعة وفقاً لما تمليه أخلاقيات صاحبة الجلالة لمعالجة تلك القضايا، لعل أنجع تلك الفنون وأكثرها شمولاً كتابة التحقيق الصحفي الذي يبدأ من حيث ينتهي الخبر ليُفسر الأسباب الكامنة وراء الظواهر ويُجيب عن السؤال المشروع "لماذا؟".
ما أحوجنا هذه الأيام لصحافة استقصائية تلبي الطموح وتمنح الإعلام المستقل صفة الرقيب على أداء الدولة وأجهزتها المختلفة؛ لتساهم في كشف المستور وتُطلع المواطن على الحقائق؛ لتخلق بذلك جدلاً إيجابياً يؤسس لأجواء من التعددية تكبح جماح الفئات والقوى التي تريد الاستئثار بالسلطة وتضمن تطبيق مبادئ حقوق الإنسان في ظل متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية تعيشها المنطقة العربية، دون أن تتسم العلاقة التي تربط الدولة بالإعلام بالعدائية، بل لابد أن تُبنى على أسس من التكامل والتعاون ضمن آليات تُحقق الشفافية والنفع العام وتُعمّق أواصر الترابط بين الصحفيين وأفراد المجتمع بوصفهم أصحاب منبرٍ يعتليه أي كان صاحب حق.
ما سبق من سردٍ لأهمية هذا الفن من فنون الصحافة يتلاشى بوجود مُعيقاتٍ يتربع على عرشها أنظمة سياسية قمعية تُعرقل عملية الوصول إلى المعلومات وتدفع الصحفي للمجازفة بمستقبله المهني في ظل غياب التشريعات التي تكفل له الحماية في كثير من بلدان الشرق الأوسط التي لا تتقبل ثقافات بعضها وجود ثقافة الرأي والرأي الآخر، إضافة إلى مُعيقات أخرى لا تقل أهمية ترتبط بشخصية الصحفي نفسه، أبرزها عدم الالتزام بالوقت المحدد لإنهاء التحقيق، وعدم القدرة على العمل تحت الضغط الذي يُمارس بهدف الانتهاء من التحقيق أو للتخلي عنه.
إن النهوض بصحافة الشرق الأوسط يتطلب عملاً ليس سهلاً يقتضي التحرر من بعض المفاهيم المغلوطة والخوف المبالغ فيه أحياناً والالتزام بالمبادئ والأهداف المنشودة للمهنة التي من شأنها أن تمهّد الطريق أمام ربيعٍ إعلاميٍ نهضوي يتناسب ومتطلبات المرحلة، لذا لابد أن نُقحم التجربة السويدية المعروفة بنموذج الأمبودسمان "ديوان المظالم" في صحافتنا إذا ما أردنا المحافظة على حرية التعبير وخلق حالة من الالتزام الأخلاقي الذاتي للصحفيين.
إن مبدأ ديوان المظالم الذي طُبق في أوائل القرن التاسع عشر، بات نموذجاً مثالياً لإمبراطوريات الإعلام الكبرى في العالم، يُشكل من خلاله مجلسٌ صحفيٌ من قِبل الصحفيين أنفسهم، مهمته رصد الأداء المهني لوسائل الإعلام وتقديم التوصيات رداً على شكاوى الجمهور، ما يُجبر الصحفي على تفادي الوقوع فريسة للخطأ ويحثه على التميز والإبداع.
لا يُنتظر من كُتّاب التحقيقات الصحفية امتلاك عصا سحرية لحل الأزمات التي لا ذنب لهم فيها أصلاً وما عليهم سوى المساهمة بقدر المستطاع في ترسيخ قيم المهنية والحياد؛ لأن تعقيدات المشهد العربي المتمثلة بتخلفٍ اقتصادي وعلمي تتطلب تضافر جهود السلطات الأربع لاسيما ونحن نشهد من حينٍ لآخر خطوات خجولة نحو تثبيت قواعد الشفافية والمساءلة.
مخاضٌ عسير تدخله التحقيقات الصحفية نتمنى أن تخرج منه بسلام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.