بؤس المعرفة واحتراف اللافعل

من المفترض أن الزعيم وحده يملك القدرة على خلق إطار جديد يضم فيه المختلفين، الوحيد القادر على توحيد الصف داخل برنامج وطني مشترك بين المنقسمين، يعرف كيف يتم استغلال نقاط القوة في جميع العناصر في المجتمع الفلسطيني، ويجبر الجميع على الدخول في مربع القضية

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/13 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/13 الساعة 03:01 بتوقيت غرينتش

"تعرفون – كما نعرف – أن الحق كما يقول الواقع بين المتساوين في القوة، في النهاية القوي يتصرف ضمن إمكاناته والضعيف يعاني مما يفرض عليه"، من المرجح أن تكون هذه الجملة التي جاءت على لسان الاثينين، جوهر حوار ميلوس الشهير وخلاصته (415) ق م.

من المتصور أن بعض الأحداث تترك آثراً بالغاً بعدها، أثراً لا يمكن تجاوزه على تصرفات البشر، فالحدث نفسه وأثره إما أن يكون درساً للبشرية جمعاء، وإما أن يقتصر على مَنْ عانى نتيجة انعدام تحسبه لقواعد طبيعية تحكم البشر.

من ذاك الحوار استمد الواقعيون السياسيون مادتهم الأولى، منكرين أثر الدور الإلهي في نزاعات البشر، ومنكرين أيضاً دور الأخلاق في حل النزاعات، مؤكدين أن الفرد يسعى وراء هدفه دون الالتفات إلى الوسيلة التي يختارها لتحقيق الهدف المنشود.

لعل المعظم على دراية بحرب الاثينين وسكان جزيرة ميلوس، والحوار الذي دار بين الطرفين في ذلك الحين، والتي استند فيها أصحاب جزيرة ميلوس الى مجموعة من الحجج والمبررات المنطقية والعادلة، بينما ختم الاثينين الحوار بحقيقة مؤكدة، أن التصرف المستند الى القوة قانون طبيعي، وجدوه قبلهم وسيتركونه موجوداً بعدهم، نتيجة ذلك، ظهرت معالم التفاوض غير المستند الى الأخلاق والقيم.

من المرجح أن تبسيط أي أمر لا يعني بالضرورة تجاهل التعقيدات المصاحبة لهذا الأمر، بل من الممكن أن التبسيط يقود إلى فهم أعمق بالمسألة مثار الجدل، والذي بدوره قد يرتب موقفاً (فعلاً) مستنداً إلى هذا الفهم، التبسيط هذا قد يعني التمييز بين الفرع والأصل، الثانوي مع الرئيسي، الثابت والمتغير.

تعي القيادة الفلسطينية قواعد التفاوض التي أسستها تلك الحروب التاريخية، وتعرف جيداً أن العدالة تصبح ممكنة عندما يتساوى الطرفان المتصارعان في قوة الإرغام، وعليه فهي بلا شك تعرف القواعد الثابتة في الحياة، والتي لا تتغير، إنما يختلف في تحديد مظاهر القوة والضعف من وقت لآخر، كذلك الإمكانيات والبدائل.

لا يفتأ الدكتور صائب عريقات، مسؤول ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في كل مناسبة عن تذكير الفلسطينيين والعالم أجمع بأن المفاوض الفلسطيني أضعف بكثير من إمكانية تغيير ما يفرضه عليه الكيان الإسرائيلي، متذرعاً بأن الفلسطينيين وحدهم في مواجهة استبداد وطغيان دولة الاحتلال الإسرائيلية، مصراً بدوره على أن إسرائيل تتصرف كدولة فوق قانون البشر.

من الجدير ذكره أن الدكتور عريقات، وفي معرض حديثه الواقعي عن إسرائيل وإمكاناتها، يتجنب التأكيد على قوة الحق الفلسطيني التاريخي والوجودي والأزلي، ويغفل عن التمييز بين الثابت والمتغير في هذه المعادلة، ويغفل أيضاً عن أن القوة عامل متغير في صراع الوجود، بينما الحق ثابت لا يقبل التغير إلا بتغير صاحبه وتنازله.

الدكتور عريقات كما القيادة الفلسطينية على دراية كاملة بأن الوضع القائم يخدم إسرائيل وحدها، وفق ما صرح به أكثر من مرة، ويقصد بالوضع القائم المجريات على مستويين: الأول الداخلي وهو الوضع القائم والمتمثل بالانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، مع استمرار حصار الأخيرة وخنقها.

إضافة الى استمرار بناء المستوطنات والقيام بكل إجراء لجعل السلطة بلا سلطة، أما الثاني فهو المستوى الخارجي ويتمثل بما تشهده الساحة العربية من متغيرات كبيرة، تجعل التركيز على القضايا الداخلية الأولوية الحالية لهذه الدول.

الحقيقة أن معرفة القواعد أمر، والتصرف بناءً على تلك المعرفة أمر آخر لدى القيادة الفلسطينية، وعليه مما لا يختلف عليه أن عدم توحّد الفلسطينيين وغياب الأفق السياسي وانسداد عملية المفاوضات وغياب ملامح المشروع الوطني وضياعه يؤثر بالفلسطينيين والقضية ويضعف حالهم. السؤال المهم: ما الذي فعلته القيادة الفلسطينية لتغيير هذا الواقع؟

لا شك أن انعدام وجود زعيم حقيقي للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة، هو أكبر كارثة ممكن أن تحل بهذا الشعب، لاسيما أن الموجودين في القيادة الحالية ليسوا أكثر من سياسيين يعتاشون من واقع الحال وديمومته، يتصرفون ضمن ردات الفعل، دون أن تكون لديهم القدرة على خلق إطار أكبر لحل الأزمات التي نشهدها الآن.

من المفترض أن الزعيم وحده يملك القدرة على خلق إطار جديد يضم فيه المختلفين، الوحيد القادر على توحيد الصف داخل برنامج وطني مشترك بين المنقسمين، يعرف كيف يتم استغلال نقاط القوة في جميع العناصر في المجتمع الفلسطيني، ويجبر الجميع على الدخول في مربع القضية، وحده الزعيم مَنْ يضع الشرط ويجمع الشعب في حلم التحرير، ووحده من يتصرف كالمحيط الذي لا يرفض رافداً مهما صغُر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد