ما بين النظري والتطبيقي هوّة شاسعة تفوق ما بين السماء والأرض.. ما بين الأفكار والمعتقدات والمبادئ التي ندعي اعتناقها وما بين حياتنا الواقعية وأسلوب عيشنا فرق كبير يعاكس كلياً ما ندعي الإيمان به.. هذا هو الواقع الوحيد الذي أراه ولعل المبدأ الوحيد الذي يسري علينا نحن البشر هو مبدأ "أؤمن بالشيء لأفعل عكسه".
"داعش" مثلاً تؤمن بأن دم كل من يخالفها حلال.. سواء كان مسلماً أو كافراً، إنهم يريدون أن يعيش الجميع بالأسلوب الذي يرونه هم مناسباً، يريدون إسكات كل رأي مخالف.. يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظرهم.. مستعدون للقتل والذبح والتعذيب بأبشع الطرق فقط لأنك لا تلبس مثلهم، أو لأنك لا تنتمي لهم.. فهناك موقفان فقط لتختار بينهما: أن تكون معهم وإلا فأنت بالضرورة ضدهم وبالتالي يجب تصفيتك.
هذا الأسلوب لدى "داعش" هو ما يجعل الناس، المسلمون منهم وغير المسلمين، يعادونهم ويرفضون وجودهم بيننا.. نحن ندعي أننا نتقبل الرأي الآخر طالما لا يعتدي على حقوقنا.
ندعي أننا نؤمن بحرية الفرد في أفكاره ومعتقداته.. لماذا أقول ندعي؟ لأنه لا يمكن إثبات هذه المبادئ إلا عندما تطبقها على أرض الواقع.. وشتان بين الكلام والفعل.
سأضعك في الصورة كي تدرك هل فعلاً تؤمن بحرية الآخر في الاختلاف وعدم التعامل معه حسب اعتقاداته الخاصة.. فكّر في صديقك المفضل أو أخيك أو أي شخص مقرّب منك وتحترمه.. وتصور أنه تبنّى أحد هذه الاعتقادات:
1 – تحول إلى المسيحية
2 – تحول إلى الشيعية
3 – ألحد
ما رأيك يا صديقي؟ كيف أصبح إحساسك تجاهه وأنت تتصوره في إحدى تلك الحالات.. أنا أجزم بأنك تجد صعوبة في تصور أنه قد غيّر مذهبه أو دينه.. وهذا أكبر دليل على أنك لا تتقبل الاختلاف.. هل ستحافظ على صداقتك به بعد ذلك؟ هل لازلت تكنّ له نفس مشاعر الحب والاحترام؟ ألا تشعر بالنفور منه وتود لو بينك وبينه ما بين المشرق والمغرب؟ ألا ترغب في إعادته لدينك ومذهبك رغماً عنه؟
اسمح لي أن أقول لك إذن إن هذه داعشية أيضاً.. ما تفعله معه هو قمة الداعشية؛ لأنك تتصور أن دينك ومذهبك هو الحق وهو الذي يجب أن يُتّبع ولا تقبل من يتبع غيره. ستقول لي أنك تؤمن بدينك ومذهبك على أنه الحق الوحيد ولأنك تحب صديقك تريده أن يعود للحق، تهديه يعني..
لكن هذا هو جوهر الداعشية.. إجبار الآخرين على الإيمان بما تؤمن به لأنك مقتنع به أو قطع العلاقة معه لأنه اتخذ لنفسه ديناً آخر، هذا الفعل يسمى في "علم المصطلحات الجديد" داعشية.
أنت في الغالب تتغنى دائماً بشعارات الديمقراطية والحرية واحترام الآخر وتلك المصطلحات الرنانة، لكن ما لم توضع في اختبار حقيقي وتنجح فيه فأنا لا أصدقك.. والاختبار الحقيقي يجب ألا تستشعر فيه عقاباً يؤثر في رد فعلك.. أعني مثلاً إن قيل لك إن صديقك قد ألحد وإنه يوجد بند في القانون يسمح لك بقتله أو إيذائه لهذا السبب، فماذا أنت فاعل؟ ربما تكون بك بقايا إنسانية تمنعك من قتله، لكن ماذا عن مشاعرك تجاهه؟
سنة 1974 قامت مارينا ابراموفيك بتجربة كي تثبت أن في داخل الإنسان وحشاً يحتاج للترويض. قررت أن تقف لمدة 6 ساعات متواصلة دون حراك وسمحت للحضور بأن يفعلوا بها ما يشاءون، وبجانبها وضعت مجموعة من الأدوات المختلفة بين اللطيفة كالورود والخطيرة كالسكين والمسدس..
رد فعل الجماهير الأول كان هو السكون والترقب.. مع مرور الوقت بدأ بعضهم ببعض الأفعال العدوانية وعندما تأكدوا أنها فعلاً لا تقوم بأي رد فعل تمادوا أكثر وبدؤوا بتمزيق ثيابها وجرحها والتحرش بها إلى درجة أن حاول أحدهم إطلاق النار على رأسها لولا أن تم منعه من طرف بعض العاقلين.
بل حتى الورود جعلوها وسيلة لنكزها بأشواكها.. عندما انتهت مهلة الست ساعات تحركت مارينا فانفض الجمع بالفرار. بهذه التجربة أثبتت مارينا أنك لا تعرف مدى شر الإنسان إلا إن أتيحت له فرصة أن يفعل أي شيء دون عقاب.. الخوف من العقاب هو ما يحمينا من داعشية الكثير من المحيطين بنا.. ومن المؤسف فعلاً أن يصل الإنسان لمستوى أن يستقيم بالخوف وليس بالحب.
ملحوظة: التجربة غير كافية لاعتبار نتيجتها حقيقة علمية، لكنها تكشف الكثير من حقيقة البشر، كما أن لكل قاعدة استثناء، وأكيد هناك أولئك القلة القليلة جداً التي لا زالت تحتفظ ببعض الإنسانية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.