مصر …كما عشتها ورأيتها

فلو أنك أتيت بخريطة الوطن العربي ووضعت أصبعك على أى بقعة من أرضه، لوجدت جرحاً ينزف من جراحات المسلمين فى كل مكان فى العراق وسوريا وفلسطين واليمن، والبلد المستقر نسبيا تجد شعبه يعيش الألم والحسرة نفسها على اشقائه في البلدان العربية الأخرى، لأننا جميعاً كنا سابقا ويجب أن نكون الآن " كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/09 الساعة 03:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/09 الساعة 03:48 بتوقيت غرينتش

ست سنوات وتزيد ، في مصر الإسلام والعروبة ، في أم الدنيا ، كانت كافية لتجعلك تحسّ أنك مواطن فيها ، ولو لم تحصل على جنسية هذا البلد المبارك ، بل ومن أول يوم تطأ قدمك أرض الكنانة تشعر بهذا الإحساس .. فأنت تعيش تفاصيل حياة المواطن الإجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية ،تأكل ما يأكلون ، وتلبس مما هو متوفر في أسواقهم ، وتتنفس هواءهم الساحر تحت وهج شمسهم الساطعة ، وتشم رائحة ياسمينهم و"مسك الليل" في حدائق القاهرة الساحرة .

عشت في مصر ، حتى كدت ، أحيانا ً، أفقد لهجتي العراقية ، والتبست هويتي على هويتهم لتشكل هوية عربية في بلد عربي عظيم .

إنه بلد تأمن بالعيش فيه مع أسرتك و عائلتك، إنه بلد يحترمك اياً كان جنسك أو لونك أو ديانتك ، فشعبها الطيب لا يعرف الحقد ، ولا يفرق بين الشعوب في المودة ، ولا يعرف التمييز بين الأعراق ، فإذا وجدك حسن السيرة والسمعة ، ولديك خبرة وكفاءة ، أحتضنوك ورحبوا بك ، كما رحّبوا بالنبي يوسف وكليوباترة ومحمد علي وغيرهم.

وإذا كنت بخلاف ذلك تخلوا عنك ، ورفضوك ، وطردوك ، كما فعلوا مع الهكسوس والفرس والانجليز ..وهذا ما يعززه القول المأثور " إن مصر هي كنانة الله في أرضه ، من أرادها بسوء قصمه الله "، وبالتالي من أراد لها الخير ساعده وحماه ، فهي أرض الأمن والأمان، وهي الوطن المعتدل المتسامح ، وهي وطنٌ يعيش في قلوب ونفوس أبنائه، وفي قلوبنا نحن العرب جميعا .

ولا ننسى أن مصر رحّبت باللاجئين إليها من السياسيين وغيرهم من الكفاءات وأصحاب العوائل والشباب الذين هربوا من الحروب وجور وظلم حكامهم من مختلف الدول العربية ، كما أتاحت للمفكرين والفنانين وأصحاب الإبداع تربة مناسبة للإبداع والمعيشة المريحة مقارنةً بالبلاد التي وفدوا منها، ولم يشعر أيٌّ منهم بالغربة بل شعر بأنه في وطنه .

وصلت إلى مصر منتصف عام 2005 م وعملت فيها ، كإعلامي ومذيع في الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي هذه المؤسسة العظيمة بمساحتها المترامية والتي ارتبط إسمها باسم المدينة التي تضمها وهي مدينة السادس من أكتوبر .

مدينة الإنتاج الإعلامي هذا الصرح الثقافي الكبير الذي يضم بداخله إمكانيات علمية وفنية واستديوهات ومناطق تصوير مفتوحة، متعددة، ما جعلها في مصاف المدن الإعلامية الكبرى بالمنطقة ، وهذا دليل آخر يؤكد على أن الشعب المصري صاحب بعد إسلامي وثقافي وقومي واسع ..فإنشاء هذا الصرح الثقافي يعد مدخلا طبيعيا للعلاقات الثقافية بين الشعوب ، فهي واحدة من أهم الكيانات الإنتاجية والإعلامية في العصر الحديث.

كما تضم بين أسوراها أجمل البنايات وما تحتويه من استديوهات ووسائل التكنولوجيا المتطورة، وقد كان لي الشرف الكبير أن ألتقي وخلال عملي فيها بكبار الإعلاميين من الرعيل الأول وكبار المخرجين والكتاب والمبدعين والفنيين والمهندسين المهرة في المجال التلفزيوني والإذاعي… إنها مصر قبلة المبدعين في كل اختصاص وعلم وفن .

لم أشارك شعب مصر العمل الإعلامي ورغيف الخبز فقط بل شاركته الدراسة والعلم بعد حصولي على شهادة الدبلوم العالي من معهد البحوث والدراسات العربية قسم البحوث والدراسات الإعلامية ، هذا المعهد العريق الذي يضم طلبة من مختلف البلدان العربية والذي أنشيء بقرار ورعاية من مجلس جامعة الدول العربية عام 1952م .

عاصرت تفاصيل الثورة ثورة 25 من يناير حيث بدأت الإنتفاضة الشعبية غير المسبوقة يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير عام 2011 م أحتجاجا على الأوضاع المعيشية والسياسية والاقتصادية السيئة وما اعتبر فساداً في ظل حكم الرئيس محمد حسني مبارك.

ولقد كان المصريون ، في السنوات السابقة للثورة، متعطشين للحرية والتخلص من حكم النظام الواحد ، وقد بدى ذلك قبل الثورة من خلال أصوات المواطنيين التواقين للتغير.

وكنت أشعر أن مصر تختزن زلزالاً قد ينفجر في أي وقت ، فالإحتجاجات التي انتشرت بصورة مفاجئة في العديد من البلدان العربية وسميت بالربيع العربي تركت حالة من الاستغراب والخوف من استفحالها وعدم نجاحها.

وما حدث في مصر كان هو الأكثر فزعاً وخوفاً !! سواء لوزن مصر السياسي والاقتصادي إقليمياً أو لمكانتها لدى الشعوب العربية .. فالتوق إلى الحرية كان حاراً في نفوس المصريين ، الذين يستحقون حريتهم.. لأن ثورات مصر هي ثورات سلمية لم تلوث بالدماء والتي تتماشى مع الروح المصرية المتسامحة والمعتدلة الوطنية ، فلا يستطيع أحد أن يزايد على وطنية الشعب المصري ..

غادرت مصر بداية عام 2012 م بعد أن عرفت المصريين ، وكوّنت صداقات وعلاقات أخوية من مختلف الأطياف والطبقات .

هذا هو الشعب المصري ، شعب متواضع ويحب البساطة في التعامل ، وهنا يكمن سر نجاحه وقوته ، لا يطلب منك ولا يعطيك سوى كلمات الإحترام والتقدير ، شعب يصبر ويتحمل ، والأجمل من ذلك أنه يصبر نفسه بالضحك والسخرية والنكات فى أصعب الظروف ، شعب كرامته وحضارته وتاريخه ورموزه الوطنية يضعها فوق كل الاعتبارات .

كل الشعوب العربية شعوب عظيمة لها تاريخ عريق وحضارات تمتد جذورها لآلاف السنين وكلها شعوب تحب الكرامة والإنسانية والخير ، ومما يحزننا جميعا المحن التى تمر بها أمتنا ووطننا العربي فى هذه الأيام ، تجعل القلب يبكى الدماء بدل الدموع…

فلو أنك أتيت بخريطة الوطن العربي ووضعت أصبعك على أى بقعة من أرضه، لوجدت جرحاً ينزف من جراحات المسلمين فى كل مكان فى العراق وسوريا وفلسطين واليمن، والبلد المستقر نسبيا تجد شعبه يعيش الألم والحسرة نفسها على اشقائه في البلدان العربية الأخرى، لأننا جميعاً كنا سابقا ويجب أن نكون الآن " كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

.. وإن الاجتماع والألفة بين المسلمين والعرب قوة وإن التفرق و التشتت ضعف ، فالإنسان قليل بنفسه كثير بإخوانه.

حماك الله يا مصر، وعاش شعبك العظيم الذي يتطلع لتحسين حياته ، وندعو الله لمصر بأن يكون فيها المستقبل للإصلاح ولأبنائها الشرفاء ، وأن تحافظ على أمنها ، وتبنى نفسها، بعيداً عن أي أجندة خارجية ، وأن يكون فيها الشعب والجيش وقوى الأمن في صف واحد وحفظ الله جميع شعوب الأرض المحبة للسلام والأمن والأمان..

تحميل المزيد