هؤلاء الذين يشعرون بالسوء والإحباط والعجز مثلك فيُضحكونك، هم "البخت" في أي بقعة يحلّون، القوة الناعمة التي تطوّح وترفع وتفضح وتصدح وتتلقى "القفا" بحب وتعطيه بحب مقابل. السخرية هي "فن المدينة" كما يحكي وائل عبدالفتاح، حالة قد تحبها أو ترفضها، قد تطلب تخفيف نغمتها الرفيعة، لكن ليس من حقك إلغاء مصدر ترويح الناس هذا خصوصاً لو كنت في موقع مسؤول، دعك من عبثية اللهاث أصلا وراء مثل هذا الخنق اليوم في فضاء مفتوح.
الشاب السعودي صاحب مقطع "" target="_hplink">لم تزبط معنا" شاب عبقري بالمناسبة، وهو من نوعية شيطانية لمّاحة أحب أن أعرف بأنها موجودة في أي مجتمع يتآكل بفعل ارتباك تكوينه النفسي والأنثربولوجي البادي في أخلاق الفقر والزحام وانسداد الأفق، مع تفشي العطانة الفكرية، والمناخ الاقتصادي الذي لا يشفق، والعته السياسي، والفساد الإداري.
هذا الخبث الذي أبداه عامّيًّا ومندوباً، ليس فقط لأن المقطع ظهر ببراعة ومزاج، بل لأنه مع ما يشبهه من مقاطع وفوتوغرافيا وتغريدات منتخِبة لبعض ظروف عيشها بعناية أُفرغت فيها جرعات متفرقة من موهبة التسخيف التي تطلق ساقيها في معظم استعادات النص والصورة، وقد أُعملت ببراعة للتجرؤ على ردّة العقل التي كان جيل بأكمله شاهداً وضامناً عليها، هي شكل تمردي منتظر على المكارثية الفكرية التي حصلت قبل تجليات هذا النضج، وطرقات مزعجة على رؤوس مبطنة بالغبار طالما نالت من وعيهم ووضعت أمام أفواههم حاجزاً إسمنتياً. ثم أن هذا الذي يعلن عن ذاته بشغب ملتزم بإمساك اليد "ومادام ما مدش إيده خلاص"، وهو يعرف أين يلعب وأين يهز ذيله بالضبط، دون أن يُطالَب بالدّية، أو بالتراجع وابتلاع لسانه فزعاً من مصير "رأس الذئب الطائر".
الهزء في الفيديوهات من سفه الواعظ الملول، أو سعار السياسي، أو نشاز المثقف، أو توهان وحمق التوابع المتحمسين حد الاستشراس أحيانا هي في الواقع "بوب آرت" خفيف الوزن، المعادل الرمزي للتفاهمات، والعتب الدافئ، والتنفيس، وانقطاع القناعة والصِّلة بالتنميط والتجهيل والقمع، يمكن أن تنظر إليه كثورة عناصرها الوحيدة الاشتباك اللساني والمناحرة المعنوية مع من قبضوا وعي الجيل في مرحلة ما ولم يفلتوه، بل استغلوه وتاجروا بقضاياه وطوّعوه قبل أن يحظى أولئك الساخرون بفسحة متواضعة وأدوات خاصة للتبرؤ منهم، رغم كونهم لم ينالوا حظوة الانعتاق الكلّي منهم بعد.
السخرية في وسعها أن تعرّي ما اعتبرته قدسياً أو ترميزاً محكماً أو مصفوفاً بثبات، يأتي الساخر ويحرّر واحداً منها من حافظته المهيبة أمام عينيك ليُريك مدى السخف والقصور والبلاهة فيه، تنتبه أخيراً إلى قطْعِه المهين لذلك الخيط الواهي الذي كان يفصل ما بين العمق والهزالة في ماضيك، فينكمش في عينيك ما توهمته حقائق أزلية، أو نظماً فائقاً، أو معالم مؤهلة لكسب توقيرك الأزلي. يخسف الساخر بكل ذلك ويعيد ترتيب الخانات، وتتلقى أنت صدمتك المعرفية وأنت تضحك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.