على طول الحدود المتعرجة لما يُسمى "بدولة الخلافة"، يتراجع مسلحو تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، لأن القوى التي تُحاربها تزداد قوة.
في هذه الأثناء ترتسم حدودٌ جديدة، وتُزرع بذورُ صراعاتٍ جديدة محتملة، وفق تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية الأربعاء 30 ديسمبر/كانون الأول 2015.
يتم خوض الحرب، التي كان هدف الولايات المتحدة الأساسي منها هو منع هجمات إرهابية مستقبلية في أميركا، لأسباب مختلفة تماماً من قبل مجموعات متنوعة من المقاتلين الشيعة والكرد والسنة في العراق وسوريا، وغالباً ما تكون وفق أجنداتٍ متنافسة تؤدي إلى تغيير الهدف الأساسي وهو هزيمة"داعش".
الكرد يرسمون حدودهم
في شمال العراق وسوريا، ينشغل الكرد برسم حدود جيوبٍ كردية جديدة.
أما الميليشيات الشيعية، وهي الآن أعتى قوة في العراق، توسع نطاق سيطرتها بعمق داخل المناطق السنية في شمال العراق.
فيما تركز الحكومة السورية من جانبها طاقاتها لاسترداد الأرض التي استولت عليها المعارضة خلال السنوات الخمس من عمر الثورة.
بينما قوات المعارضة السورية المنقسمة بعمق يحاربون على جبهتين للاحتفاظ بالأراضي التي سيطروا عليها ضد كل من قوات الحكومة و"داعش".
في هذا المشهد المفكك، "داعش" ليست سوى واحدة من الجماعات المتعددة التي تتنافس على كسب الأرض والهيمنة على دولتي العراق وسوريا المنهارتين نتيجة المزاحمة على السلطة بعد الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 وبعد الثورة السورية في عام 2011.
الأمل في زوال داعش
ربما يتم القضاء على "داعش" قريباً وربما لا، لكن سلسلة الهزائم التي مُني بها التنظيم في الأشهر الأخيرة في شمال شرق سوريا، و شمال العراق وأخيراً في الرمادي، أنعشت الآمال في أن زواله أقرب مما كان متوقعاً.
لكن من الواضح أن الانتصار على التنظيم لن يُنهي سفك الدماء في المنطقة، حسب ما يقول فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن لعلوم الاقتصاد والسياسة.
ويضيف "لا يفكر أحدٌ في المرحلة التالية، والمرحلة التالية ستكون دمويةً، فوضوية وغير مستقرة مثلما هي الحال الآن. لقد تغير قلبُ الشرق الأوسط، نظامُ الدولة الهش الذي كان موجوداً تلاشى".
مشيراً إلى أنه على طول خطوط الجبهة، تعيد الحربُ ضد "داعش" رسمَ خريطة الشرق الأوسط بشكل لا رجعة عنه ربما.
يحارب الرجالُ -وفي بعض المناطق النساءُ- بشجاعة ضد جهاديي التنظيم المسلحين جيداً، وفي بعض الأحيان يواجهون مسلحي التنظيم حاملين بنادق الصيد التي كانت لدى عائلاتهم قبل اندلاع الحرب بفترة طويلة.
لكن لا توجد خطة موحدة ولا يوجد هدف مشترك، بل ألغاز مركَّبة من الأجزاء المنهارة من العراق وسوريا.
الكرد يتقدمون في سوريا
أحد أجزاء الألغاز ينكشف على طول "الطريق الدولي" الذي يربط بين شمال العراق وساحل المتوسط السوري، وقد استخدمه "داعش" كطريق إمدادٍ يمتد عبر الحدود الممحية تقريباً بين العراق وسوريا.
في شمال شرق سوريا، يحدِّد الطريق خطَّ الجبهة بين "داعش" والمناطق التي تُسيطر عليها الأقلية الكردية، والتي برزت كشريك فعَّال للولايات المتحدة في الحرب على التنظيم.
أما الرقة، عاصمة التنظيم التي تحتل المرتبة الثانية في أولويات الحملة العسكرية الأميركية، فتقع على بعد 30 ميلاً نحو الجنوب.
لكن الرقة، وهي المدينة العربية، ليست أولوية بالنسبة لوحدات حماية الشعب الكردية المنشغلة بتوطيد نفوذها في شمال شرق سوريا.
خلال السنة الأخيرة، قامت الوحدات الكردية بتوسيع نطاق منطقتها بنسبة 186%- مقارنة بتقلص 14% من المساحة الأكبر بكثير التي يسيطر عليها التنظيم- وهذا يجعل هذه الوحدات الرابح الأكبر في الحرب، حسب الأرقام التي جمعها مركز IHS لرصد الصراعات.
تأمل هذه الوحدات الآن في السيطرة على امتداد آخر من الأراضي الكردية، منطقة عفرين المعزولة في أقصى الغرب، في محافظة حلب، والمحاطة بمنطقة تسيطر عليها مجموعاتٌ من قوات المعارضة السورية.
في محاولة لفتح الطريق إلى عفرين، تركزت العمليات العسكرية للوحدات في تلك المنطقة، وهو ما وضع الكرد في حالة صراعٍ مع الجيش السوري الحر، وربما مع تركيا التي أقسمت على منع قيام كيانٍ كردي في المنطقة.
تُرك خط الجبهة في الرقة لمجموعاتٍ من ثوار الرقة السابقين الذين طردهم التنظيم منها.
و يحارب هؤلاء الثوار برشاشات كلاشينكوف قديمة على طول حاجزٍ طبيعي وعر في الصحراء الواقعة جنوب بلدة عين العيسى.
ويشوب علاقة هؤلاء الثوار مع الوحدات الكردية التوتر، كما تم تجاهلهم في عملية تسليح المعارضة السنية التي تبناها البنتاغون لطرد التنظيم من المناطق السنية.
لكن استراتيجية الاعتماد على قوات كردية لمحاربة "داعش" في المناطق العربية "محكومةٌ بجعل الأمور أسوأ، وليس أفضل"، كما قال روبرت فورد، سفير الولايات المتحدة السابق في سوريا والذي يعمل الآن في معهد دراسات الشرق الأوسط.
وأضاف فورد: "يساعد الأميركان في إنشاء منطقة حكم ذاتي معلن من طرف واحد في المنطقة الكردية، والعرب السوريون لن يقبلوا هذا.
وسيقود هذا إلى تقسيم سوريا، وإن تم تفكيك البلد بهذا الشكل، فهذا سيصعِّب من عملية القضاء على تنظيم "داعش"".
خط التماس الكردي- العربي
تهيمن نفس المعضلة على طول حدود المنطقة الكردية في شمال العراق، وتحديداً في ساحة المعركة الدائرة إلى الجنوب من بلدة "مخمور" التي كانت ذات يوم مسكونةً من قبل خليط عربي- كردي، والتي ساهم سقوطها بيد التنظيم في أغسطس/آب من عام 2014 في بدء الضربات الجوية الأميركية.
لم يستمر احتلالُ الجهاديين للبلدة أكثر من 48 ساعة، فقد تدخلت الطائرات الحربية الأميركية وتقهقر التنظيم في أول إشارة على أن القوة الجوية يمكن أن تكون حاسمة في وقف تقدم مسلحي التنظيم.
لم يتغير خط الجبهة منذ ذلك الوقت، ويتكون الخط من متاهةٍ من الخنادق، والمتاريس وأكياس الرمل، تمتد عبر السهول الخصبة لمحافظة نينوى في شمال العراق، ويفصل الخط المنطقة الكردية عن المنطقة التي تخضع لداعش، كما تشكِّل الحدود الجنوبية للمناطق التي تقول حكومة إقليم كردستان العراق إنها جزءٌ من الدولة الكردية التي لم تُعلن بعد.
القرى التي تقع إلى الجنوب من هذا الخط يسكنها العرب، وتقول قوات البيشمركة التي تحرس الجبهة أنه لا نية لديها في التقدم، رغم أن بمقدورهم فعل ذلك.
الكولونيل يادغار هجران، الذي يقود القوات على خط الجبهة يقول: "لن نتقدم أبعد من خط الجبهة هذا لأن هذه مناطق عربية. إن كان على أحدٍ أن يحرر هذه المناطق، فيجب أن يكونوا من العرب، لأنه لو قام الكرد بتحريرها، ستتحول الحرب إلى حربٍ عرقية".
لكنها بالفعل حربٌ عرقية من عدة نواحي، بسبب وقوعها على خط التماس الكردي- العربي في شمال العراق، و كثيراً ما كانت بلدة مخمور محل نزاع، وقد كانت من ضمن المناطق التي خضعت لبرنامج "التعريب" الذي طبقه الرئيس العراقي صدام حسين في ثمانينيات القرن الماضي.
هُدمت القرى الكردية المحيطة بها، ومُنحت أراضي تلك القرى للمستوطنين العرب الذين جُلبوا من مناطق أخرى من العراق.
استولى الكرد على البلدة بعد أن دخلت القوات الأميركية إلى المنطقة في عام 2003، وهو ما دفع العديد من سكانها العرب إلى النزوح منها.
حسب الدستور العراقي الجديد، سيتم تقرير الوضع النهائي للبلدة عبر إجراء استفتاء، لكن هذه الخطوة أصبحت محل جدل منذ بدأت الحرب ضد "داعش".
وقال رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، أن الكرد لن يسلِّموا أياً من الأراضي التي استولوا عليها، كما تم إحياء الحديث عن إجراء استفتاء حول الاستقلال الكامل لكردستان.
ويقول قائد إدارة الأمن القومي الكردية، مسرور البرزاني، أنه "ثمة حاجة إلى قرارات شجاعة، إلى النظر إلى الواقع وترك الناس يقررون ما يريدون.
لقد تفكك العراق، والسنة فقط من يؤمنون بفكرة العراق الموحَّد الا أن محاولة إبقاء البلد موحداً ضد إرادة الشعب لن تكون ناجحة".
الانتصارات الشيعية
لكن الميليشيات الشيعية التي تحارب "داعش" على بعد 40 ميلاً إلى الجنوب، في مصفاة بيجي المدمرة، لا تتفق مع هذا الرأي.
تم تحرير المصفاة في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015، بعد أكثر من سنة من معارك الكر والفر مع التنظيم، وكانت الميليشيات الشيعية تُحارب ضمن صفوف "الحشد الشعبي"، لاعبةً دوراً جوهرياً في الانتصار الذي حققته قوات الجيش العراقي.
تحول خط الجبهة الآن إلى جبال "مخول"، وهي سلسلةٌ من التلال الاستراتيجية التي تطل على المصفاة كما تطل على الطريق السريع المؤدي إلى الموصل، أكبر المدن التي يسيطر عليها التنظيم.
هذه أيضاً منطقة سنيةٌ تمت السيطرة عليها من الشيعة الذين يحاربون بعيداً عن موطنهم في جنوب العراق، "بتشجيع من قادتهم الدينيين"، كما قال أحد المقاتلين الشبان.
على طول الطريق السريع الممتد 200 ميل بين بيجي وبغداد، تقع أطلال القرى السنية التي دمرتها الضربات الجوية والمدفعية العراقية في القتال المحتدم لطرد التنظيم.
وقال ستار أهوان، أحد المقاتلين الـ 24 المرابطين على التلة: "نحن نتبع أوامر المرجعية"، ويقصد بها السلطة الدينية العليا للشيعة في النجف.
يرتدي هؤلاء المقاتلون شريطاً على ذراعهم يحمل صورة الزعيم الإيراني السابق آية الله الخميني، وهو ما يذكِّر بالولاءات المتعددة التي تعقد ساحة المعركة.
لكن المقاتلين الشيعة يحاربون من أجل العراق الموحد، كما أصر اثنان من قادة "كتائب سيد الشهداء" وهي ميليشيات شيعية تحارب في سوريا أيضاً.
ويقول علاء الحسيني، القادم من النجف والذي يحمل عُصابةً تشير إلى دوره كمرشد ديني للمجموعة: "الحشد الشعبي هم من أبناء العراق. كلنا عراقيون، سنةً وشيعةً، وقد وحدتنا هذه الأزمة".
خلفه، خفقت راية الميليشيات الشيعية التي تشارك في القتال، بعد أن فرغت المدينة من سكانها وأصبحت ركاماً تقريباً.
كيانٌ سنيٌّ منفصل
بالنسبة للعراقيين السنة المشاركين في الحرب ضد "داعش" السنية، تشكِّل رمزية هذه المشاهد التي يتم بثها على التلفزيون، أمراً مقلقاً.
أميريات فلوجة في محافظة الأنبار هي إحدى البلدات السنية القليلة التي صمدت في وجه اجتياح التنظيم خلال العام الماضي، وهي أولى البلدات التي شارك سكانها في الحرب ضد التنظيم.
عاد عدة مئاتٍ من أبناء القبائل السنية المحلية الذين دربتهم الولايات المتحدة إلى المنطقة في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2015، وبدأوا بأول هجوم لهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بمساعدة من قوات الجيش العراقي.
استطاعت هذه القوة اختراق المناطق التي سيطر عليها التنظيم خلال 36 ساعة، كما سيطروا على ثلاثة أميال إضافية من الأرض.
يقول المحاربون أنهم واثقون من قدرتهم على التقدم والاستيلاء على الفلوجة نفسها إن تم تقديم الدعم الكافي لهم من الحكومة العراقية ومن الحلفاء أمثال الولايات المتحدة.
لكن الأسلحة لا تصل إلى هذه الجبهة المهملة، ولا يرتدي المقاتلون أي زي موحد، وبعضهم مسلحٌ فقط ببنادق قديمة، فالحكومة الشيعية مترددة في تسليح العشائر السنية خوفاً من تعزيز قوة خصوم محتملين، والسنة هنا يتساءلون عن مستقبلهم في عراق يحكمه الشيعة بوضوح الآن أكثر من أي وقت مضى.
يقول شاكر العيساوي، أحد قادة بلدة أميريات فلوجة، أثناء زيارته للرجال على الجبهة: "حتى أولئك الذين يدينون بالولاء للحكومة المركزية ويحاربون التنظيم تتم معاملتهم وكأنهم أجانب".
العيساوي واحدٌ من العديد من السنة الذين بدأوا بتقبل فكرة كيان سني مستقل، مثلما هو حال الأكراد في الشمال.
وأضاف العيساوي: "إن شعر أهل الأنبار بأنهم محترمون كعراقيين، فسيدينون لنا بالولاء وسيحاربون التنظيم. لكن الحكومة لا تحترمنا، وأخشى أن الحل الوحيد هو الدولة السنية".
لكن هذا ليس رأي الأغلبية السنية كما قال صهيب الراوي، حاكم الأنبار، خلال لقاء في بغداد قبل الانتصار الأخير للقوات العراقية في الرمادي.