أتذكر بشغف ذلك اليوم الصيفي الحار.. كنت في البيت منهمكة في تطوير موقع إلكتروني أعمل عليه في غاية الملل.. ملل ليس من شيء أكثر من ذلك المنهاج التعليمي الذي انتميت له طوال هذه السنين التي طالما حشا عقلي بمعلومات تفرض عليَّ الحفظ أكثر من الفهم والاستجابة العقلية لمحتواها، كنت أتمنى من كل جوفي أن تتغير تلك الحال بأي شكل لكن فقط فلتتغير.. لم يتأخر الرد كثيرا فسرعان ما فتحت رسائل الإيميل التي تخصني حتى فوجئت برسالة قبول في إحدى المنح الدولية للدراسة بالخارج، كنت سعيدة سعادة جعلت مني أتمرد على التخلف الذي طالما تعلق بجدران بلدي، رغم أنني فتاة هذا البلد أبا عن جد، لكن هذه المرة لا أعلم لمَ صارت رؤيتي منتقضة لبلادي وكل ما فيها، صرت أرى المجتمع وما فيه عبارة عن خطأ فادح يجب تصحيحه.. ومن وجهة نظري المحدودة حينها فإن الهجرة هي أولى بوادر التصحيح..
مرت الأيام وأنا أجهز أوراقي ماديا ومعنويا إلى أن آن الأوان.. نعم تحقق حلمي أخيرا، إنها أول مرة أرى الطائرة بهذا القرب، أول مرة سأرى بلادي من السماء لا أعلم ما الذي حصل لي حينها، لكنني لم أتأثربالرحيل بل كأنني معتادة على ذلك منذ زمن. رحلت عنك يا بلدي يومها وكلي أحلام، وفي أول خطوة لي في عالم غربي محض إذا بي أفاجأ أن الناس لا يتحدثون مثلنا، أكيد أن ذلك شيء معلوم، لكن يبدو أنني لم أحسب له حسبانا، من حسن حظي أنني كنت أجيد لغة أوباما بشكل جيد، لكن صدقا استعمال تلك اللغة في فصل من فصول المدرسة أو الجامعة مختلف تماما عن استعمالها في بلد آخر، على كل حال أتذكر يومها أنني وقعت في مشكل بسبب تأخر إحدى الطائرات، مما أدى إلى ضياع رحلتي التالية.. في تلك اللحظة أحسست بدوار شديد وبوحدة أشد ومن شدة الخوف والهلع بدأت الكلمات الأجنبية تخونني، لم أكن أعلم أين أذهب.. ومَن أسأل.. إنها التجربة الأولى لكنها كانت بشعة فالضياع من أول يوم مخيف حقا.. لن أقص تفاصيل المشكل أكثر لكن سأتكلم عن حله.. هل تعلمون من كان السبب في حل ذلك المشكل؟ إنه شخص غريب لم أعرفه ولن أعرفه مستقبلا على ما أظن، انتشلني من ضياعي في مطار أجنبي، اشترى لي تذكرة لطائرة أخرى بدل التي أضعتها، نطق ذلك الغريب بجملة واحدة صححت كل المفاهيم في جوفي المريض المعتل، وكانت جملته العربية الجميلة "مفيش مشكلة كذا كله تمام متخفيش إحنا خوات".
هنا تجدر الإشارة أنني قبل مقابلة هذا الشخص العربي وأنا في ضياعي ذاك.. طلبت المساعدة من عدة أجانب لكن لا أحد اهتم بي أو بدموعي رغم أن طلبي كان بسيطا، هو إجراء اتصال بجامعتي التي أضعت رحلة الوصول إليها لكن لم يستطع أحد منهم أن يضحي ببضع دقائق لاتصال هاتفي، أما هذا الشخص فمبدأ أننا إخوة كان عنده أهم وأرقى من أي شيء آخر..
انتهى ذلك اليوم الفظيع بسلام وصلت إلى وجهتي الأخيرة أخيرا.. التي كانت لي بمثابة حلم تحقق.. هاأنا ذي رسميا طالبة من الطلاب الأرووبيين. لحظة الأمر لم يكن كذلك البتة، بل بحجابي ذاك وفستاني الطويل وكفي الذي يختبأ وراء ظهري هربا من مصافحة الرجال، كنت إما أفغانستانية إما لاجئة سياسية، كنت الشخص الغريب الذي تلاحقة النظرات في كل مكان، كنت غريبة بكل المقاييس.. فهذه تنهر بي لا تجلسي بجانبي وآخرون يهمسون دعوا جيل عمر المختار يمر، أما الموقف الأكثر سخفا هو إصدار أصوات انفجار القنابل عند مروري مع أحد الإخوة العرب.
على أيٍّ، كل هذا لم يضعفني، ولم يفقدني نفسي، بل جعلني أقوى، وجعلني أقدر كل شيء ملكته فيما سبق في بلادي، فرغم سوء أحوالها إلا أنها كانت تقبلني كما أنا.. إذاً أليست الأرض التي تقبلني كما أنا أولى بوجودي فيها وعيشي بين جنباتها؟ لقد اختفت تلك الأنانية من جوفي فصرت شخصاً يفكر في أنه مسؤول عما آلت له أحوال بلداننا العربية فلو أن كل شخص اكتفى بانتقاض الأوضاع ثم قرر الرحيل فقط، فمن يصحح الوضع ومن يغير الحال.. إن أغلب الأمور في الحياة تحل بالمواجهة ولكن للأسف أناي الأنانية اختارت الرحيل دونما مواجهة.
هنا فقط وجدت حلا لحالنا المؤلم.. الحل يكمن في تقدير ما نملك وعدم التطلع فيما لدى الغير.. فلربما ما نملكه روح ونحن الجسد، ولعل ما يحمله الغير جسداً ضاعت منه الروح، وجدت حلا فلم أعد أخفي رأسي خوفاً من نظرات البشر حولي، بل صرت أرفعه وأحدق بتلك الأعين حتى صارت تخجل هي من عروبتي فتندثر، لذلك صدقاً إن الحل الوحيد الذي يصحح حالنا.. هو نحن. فدعونا لا نرحل رجاءً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.