"طبيبة".. هي إجابتي مذّ كنتُ في الإعدادي حينما أُسئَلُ عمّا أريد أن أصبحه.. وقد ظللت أرددها إلى عهد قريب.. ففي مرّة سألتني صديقتي: كيف ترين نفسك بعد 10سنوات؟ أردفتُ وقد داهمني الجواب كما باغتها: طبيبة.. الطريف في الأمر أنّي كنتُ آنذاك في السنة الثانية بمدرسة للتجارة والتسيير..
دراستي كانت موجهّة من البداية للطب، ولم أكن مستعدّة نفسيا لغير ذلك رغم تظاهري بخلافه.. هوسي هذا يفسر الأزمة النفسية التي مررت بها بعد تلقّي صدمة الرسوب في مباراة الولوج بعد حصولي على الباكالوريا.. دخلتُ المدرسة التي أنا فيها الآن ليس لأنه لم يكن هناك بديل يوافق توجّهي، إنما لأن خلايا التفكير لدي كانت قد أُتلِفت فباتت بغتة كل المدارس سواء عندي.. لذلك أقدمتُ على أوّل واحدة نجحت فيها وتتواجد بمدينتي.. أُسدل ستار الرجاء في وجهي فبتُّ أتهكّم من كل شيء.. بالنسبة لي كان أمر الرسوب بمثابة انهيار لكل طموحاتي.. فماذا تنتظر من طفلة هدّمتَ بيتا تبنيه لوقت طويل بواسطة لعبة المكعبات غير الصراخ والدمع الحارق؟ بيد أني لا أمتلك حصانة الطفل في فعل ذلك ولأني بلغت عمرا أولجني عالم الكبار الموحش، فما كان لي إلا التقيد بأعرافهم والتي من أحد مبادئها الصموت الواجف..
لم يكن أبي يرتضي لي مهنة الطب كونها طويلة الأمد وتفتقر للاستقرار لكن كان يحترم اختياراتي ولا يجادلني فيها.. أمّا أمّي فأظنّها عانت مرّتين.. الأولى بسبب رسوبي والثانيّة بسبب الحالة التي عطِفت إليها.. الكلّ من حولي كان يردّد على مسامعي: الخير فيما اختاره الله.. لكن كانت أسئلة أخرى تدور بخلدي: لمَ لم يُجعل الخير في الطب؟ ما الذي سيحدث لو نلتُ ما أريد؟ ثمّ هل هذا عقابٌ لي على تقصيري في جانب آخر؟ كان لديّ حقّ إعادة الترشح مرّة أخرى.. لكني لم أفعل.. فبعد سيْل الكلام عن القضاء والقدر الذي انهال عليّ، ظننتُ أنّي فعلا تجاوزتُ الأمر وتوهّمتُ أن بي من الإيمان ما ينزّهني عن السقوط مرّة أخرى.. لكنّ الحاجز الذي شيّدته خار مع أوّل عقبة.. خِلتُه صرحا وهو بالكاد أطلال..
كانت قصّةَ شخصٍ يعاني تقريبا من نفس حالتي.. الفرق الوحيد أنّه نجح في المباراة لكن ظروفا أخرى منعته من الالتحاق بالكلية.. أعادتني هاته القصّة لنقطة الصّفر لتذكّرني بخيبتي وتُسرّبَ إليّ شعور بالنّدم لأنّي لم أُعِد الترشح.. شرعت حالتي في التدهور وباتت الأسئلة من جديد تصحو حينما أريد أنا أن أنام.. أُخبِرتُ أنّ هناك فرصة ثالثة للترشح للمباراة.. فقررّتُ أن أستغلّها.. كانت وقودي لإكمال العام الدّراسي الماضي..
قُمت بالتحضير للمباراة بشكل جيّد كما لم أفعل من قبل.. لكني رسبتُ مرّة أخرى.. فكانت هذه نقطة الانعطاف بحياتي.. هل وقعتُ في شِباك نفس حالة الاكتئاب الأولى؟ قطعا لا.. لمَ؟ لأنّ ما يميّز هذه عن سابقتها يقيني بأنّي قدّمتُ كلّ جهدي بالمحاولة مرّة أخرى وتخلّصتُ من هاجس السؤال "ماذا لو؟"..
صحيح أنّ الأقدار تمضي على غير اختيار لكن لا يجب أن نجعلها ذريعة لتواكلنا.. الاطمئنان يأتي حينما تُدقّ كلّ الأبواب..
حينما أجلس إلى نفسي حاليا للتفكّر قليلا، أجدُ أنّ هناك أشياء جميلة أنعم بها لست ضامنة أن أحظى بها لو سلكتُ مهيع الطبّ.. هذا دور التجارب.. أن تكشف طينتك.. فتُلقّنك درسا تجهله أو تعلمه لكنك لم تستسغه بعد.. بثُّ أسأل نفسي: هل لو كان بإمكاننا الاطّلاع على الغيب، كنّا سنختار طريقا آخر غير المُقدّر لنا؟ هل الموقع الذي نقف فيه حاليا نحكم عليه بالإخفاق أو الفلاح انطلاقا من تقييمنا الشخصي أو من تقييم الناس إلينا؟ ثمّ هل سَبرْنا أغوار حسن الظّن الذي أمرنا الله به؟ في الحقيقة نحن نحمل بدواخلنا أشخاصا حالمين وطموحين.. لكن التربية والمجتمع يحوّلوننا لأشخاص يتصرفون ويتظاهرون بعكس سريرتهم.. نظنّ أنّ توقّع الأسوأ قد يأتي بأقل الأضرار.. نتوهّم أن هذا ينجح في المرّة الأولى ثمّ الثانية فالثالثة ثمّ يتحوّل لقناعة.. نقول ربّما هكذا أفضل حتّى لا تَرفعَ سقف توقّعاتكَ فتُرفَعُ معها حدّة الخيبةِ حينَ الفشل.. أو حتّى لا ينبهر بك الناس زيادة عن اللزوم -فلأن التفكير السلبي هو السائد أنتَ طفرة تستحق الأنظار- لكن ما نغفل عنه أننا نفقد أثناء ذلك حيويّتنا وإقبالنا على مسعانا الأوّل.. نفقد الذات العميقة فينا التي قطعاً لا تفكّر ولا تريد أصلا أن تفكّر هكذا..
الحلّ لمشاكلنا ليس وصفة سحرية فورية النتيجة.. الحلّ تطبيق ديمومي يستدعي باستمرار وقفات تأمل وتدبّر، خلوات صادقة.. تقييمات شخصية.. الحلّ أن تضع في لحظات الرخاء واليُسر أُسُساً تمشي عليها ومعالم تتبّعها كي تكون لك في لحظات الضيق والعُسر عونا وغوثا.. الحلّ أن تُدرك أن الاطمئنان لا يُعطى جزافا إنّما عن كدّ واستحقاق ومكابدة..
فلتتفقد إذن نقطة الانعطاف الخاصّة بك.. هل يا تُرى مضت وغفلتَ عنها؟ أم أنها آتية وعليك أن تتأنّى؟ أم أنك تَعيشها الآن ولا تعيها!؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.