"حلماً بالثراء وهرباً من الفقر" شباب سودانيون قرروا هجرة الأراضي الزراعية والبحث عن الذهب الذي ينتشر في شمال البلاد رغم مخاطره، ما دفع بعض السودانيين لإنشاء شركات محلية لاستخراج المعدن، فيما تسعى الخرطوم التي تعاني من الفقر وتراجع الاقتصاد للحصول على المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأفريقية المنتجة للذهب بعد جنوب أفريقيا وغانا.
رحلة البحث عن الثراء تبدأ بأوعية من الألمنيوم يحملها بين يديه، السوداني عبد الله إدريس إسحق الذي ينطلق قبل الـ7 صباحاً مع بداية حر الشمس الشديد، ويتجمع هو وأقرانه من العمال أمام حوض من المياه العكرة، حيث يقومون بغربلة المياه بينما يمعن كل منهم النظر في إنائه عله يجد بارقة من الذهب.
يأخذ النعاس منهم كل مأخذ، فيضعون ماء ملوثاً بالزئبق والسيانيد، على وجوههم كي يظلوا يقظين مفتوحي الأعين.
المشرفون يصلون المكان، فيفرغون شحنة من المتفجرات أرضاً ويزرعونها هنا وهناك، ثم يفجرونها وسط التربة لتسهل عمليات التنقيب، فيما يركض العمال وسط التفجيرات محذرين بعضهم : "حذارِ الانفجار!"
منذ هرب إسحق من بلدته نيالا غرب دارفور في السودان، وهو يعمل في البحث عن الذهب بلا كللٍ ليسدد ثمن معداته ويحصد شيئاً من المال، أما الآن وقد ظهرت تباشير الذهب جنوب الحدود المصرية، فيقول إن ظروف العمل الصعبة لن تثنيه عن المضي في مطاردة حلمه والعثور على الذهب: "ما من عمل في أي مكان آخر، لذا ما الخيار الثاني لدي؟ إما هذا أو لا شيء".
الحل الوحيد لإنقاذ الاقتصاد؟
حكومة السودان هي الأخرى تواجه الخيار ذاته، في الحصول على الذهب الذي سينقذ اقتصادها المتعثر بعد انفصال الجنوب عام 2011، والذي حرمها من 75% من دخلها الاقتصادي المتمثل في عائدات النفط، بحسب التقرير الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية الأحد 27 ديسمبر/كانون الأول 2015.
فمع استمرار الصراعات في 7 من ولاياتها الـ18 ومع اقتراب إعصار إلنينيو وتهديده بالمزيد من الجفاف، أدركت حكومة السودان أن الوقت حان لإنقاذ الاقتصاد المتهالك بإحياء صناعة الذهب والتنقيب عنه.
وفتحت باب البحث عن الذهب أمام الشركات المحلية التي سارعت 200 منها إلى القيام بعمليات تنقيب في 8 ولايات، حسب ما كشفت عنه وزارة المعادن.
طموحات سودانية
أما على الصعيد العالمي، فقد أعلنت الحكومة التي تسعى لاجتذاب المستثمرين العالميين، عن طموحاتها باحتلال السودان المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأفريقية المنتجة للذهب بعد جنوب أفريقيا وغانا.
ففي عام 2009 أنتجت السودان 4 أطنان من الذهب، ثم ارتفع الإنتاج إلى 36 طناً عام 2014، أما العام الحالي فتقول التقديرات الحكومية أن الإنتاج سيصل 74 طناً بالمقارنة مع إنتاج غانا عام 2013 والذي بلغ 107.9 أطنان، ويرجح أن انتاج العام الحالي تجاوز هذا الرقم.
أين الاستثمار الأجنبي؟
لكن عدداً ضئيلاً من الشركات الأجنبية جازف بالاستثمار في التنقيب داخل السودان.
فالعقوبات الأميركية التي كانت أميركا فرضتها على السودان بعد قيام الخرطوم بإيواء أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة الراحل في البلاد في التسعينيات، تصعّب على الشركات المستثمرة نقل وتحريك الأموال اللازمة لإطلاق عمليات تنقيب واسعة النطاق.
هيو ستيوارت الرئيس التنفيذي لشركة أوركا غولد الكندية (من الشركات القليلة المغامرة بالاستثمار بالسودان) قال: "تواجه العديد من البنوك الأوروبية ضغوطات لتنفض أيديها من السودان، ولهذا يستغرقنا نقل و تحويل الأموال إلى هنا بالشكل الأمثل بعض الوقت."
هذا وتسعى شركة أوركا للحصول على 200-300 مليون دولار من دول الخليج العربي من أجل حفر منجم في منطقة نشاطها شمال أبو حامد.
تعقيدات حكومية
المراقبون يقولون إن المستثمرين الأجانب يخشون التعامل مع الحكومة السودانية التي تصر أن يباع كل الذهب عن طريق بنكها المركزي.
كما أن الرئيس السوداني، عمر البشير، مطلوب أمام المحكمة الجنائية الدولية لجرائم حرب.
غير أن الخوف الأكبر للمستثمرين الأجانب يتمثل في رغبتهم في النأي بأنفسهم بعيداً عن شركات التنقيب المحلية ذات الممارسات الفوضوية.
مخاطر عملية التنقيب
شركات التنقيب الصغيرة لا تعبأ بتطبيق القوانين البيئية، حيث تقوم بإلقاء نفاياتها التي تضم الزئبق والسيانيد، في مياه النيل.
ومع حلول فيضان شهر أغسطس/آب 2016، سيرتفع منسوب المياه ويجرف النفايات العالقة على أطراف النهر نحو البحر المتوسط.
وقال صلاح عبدالرحمن، الناشط في مجال حماية بيئة النوبة في منطقة عبري وسط مناجم الذهب: "نخشى تسرب السموم والنفايات إلى مخزون المياه، ونخشى على النهر."
كما حذر عبدالرحمن من أن أحلام الثراء السريع تدفع بالشباب اليافع لهجر الأراضي الزراعية، ما سيغير المشهد الزراعي في القرى.
وفي غياب القوانين التي ترعى صحة وسلامة العاملين وفي غياب الرعاية الطبية التي تبعد أميالاً، يصاب هؤلاء العمال بالعديد من الأمراض.
فأبخرة الزئبق وابتلاع السيانيد بالخطأ أسهما في رفع مستويات الإصابة بالسرطان.
وهنا يقول إسحق: "لكننا جميعاً حذرون" بينما ساقاه تغوصان في مستنقع الذهب المليء بالكيماويات والذي سيبقى فيه حتى نهاية نوبة عمله التي تستمر 12 – 14 ساعة.
الخبرات
حالياً تعول الحكومة على المستثمرين المحليين، لكن نقص خبرة هؤلاء يتسبب بإهدار الخام، حسبما يقول عالم الجيولوجيا، أيمن إبراهيم الذي يعمل في التنقيب شمال دنقلا.
وأضاف إبراهيم أن الجامعات لم تتنبه إلا الآن لضرورة تعليم الجيولوجيا بالشكل السليم الذي يسهل على المتعلم النظر في الأرض لتحديد مواقع الذهب من قراءة لون التربة الأحمر.
ولا تتوقف الصعوبات هنا وحسب، بل يتوجب نقل العينات جنوباً إلى الخرطوم (حوالي 900 كلم)، لأن الشركة الصينية التي وعدت بتقديم معدات التحليل المخبري لمواقع التنقيب تتباطأ كثيراً في الوفاء بوعدها، ما يعسّر سير العمل كثيراً.
عصر الذهب
مع كل تلك المصاعب، ما زالت الدلائل تشير إلى أن الشركات المحلية قد تتمكن من الولوج إلى عصر الذهب.
مدير موقع منجم الاعتماد في دنقلا، صلاح الدين صلاح، يشير إلى آخر معدات شركته القادرة على تكسير 300 طن من الصخور المستخرجة إلى تراب في غضون يوم واحد، في إشارة إلى طموحات الشركات المحلية.
من جهة أخرى هناك عمالة متوفرة لغربلة الذهب وفصله عن الشوائب، فالأمن النسبي الذي تتمتع به المنطقة اجتذب آلاف الدارفوريين مثل إسحق للهجرة إلى وادي النيل، وهكذا شأن المهاجرين من جنوب كردفان وولايات النيل الأزرق.
ويختم نيل باسمور، المدير التنفيذي لشركة هنام وشركاه – شركة استشارات اقتصادية ذات مصالح في السودان – : "بالرغم من عقوبات أميركا وعدم مقدرة الكثير من المستثمرين على المجيء إلى هنا، إلا أن مستوى التنقيب المحلي الحرفي الحالي ينبئ بالكثير. ولا أبالغ إن قلت أن الفرصة هنا لا مثيل لها في العالم."