طبيعة الإنسان معقدة جدا، والغوص في أعماق النفس البشرية أشبه بالضياع وسط اللانهاية.. ففي كل يوم نسمع باكتشافات جديدة من علماء هذا الزمان عن ماهية الإنسان.. أو قد نعثر بالصدفة على أقوال بعض الفلاسفة من زمن ولَّى.. ونستطيع أن نستنتج بدورنا، وبمقارنة بسيطة بين هذا وذاك، بأن المخلوق البشري سيظل إشكالية فلسفية خالدة.. وكيف لا وهو من تصوير أعظم خالق.
وكمحاولة متواضعة مني للبحث خلف أنقاض من سبقوني.. لا يسعني سوى تشبيه حياة الإنسان بالفيلم السينمائي.. فقدره مكتوب عند خالقه.. ولكن الله جل في علاه، ترك له مهمة إخراج قصته.. رحمة منه.
لطالما سمعنا عن نظرية التسيير والتخيير.. وعلمنا أن كل واحد منا مُسَيَّر في كل ما هو نسبي كالجمال والطول والشكل واللون، وكل ما هو مُقدَّر.. كالوالدَين والأهل والمجتمع المحيط…إلخ.. وفيما دون ذلك، فله حرية الاختيار.
وفي عودة منا إلى فكرة القصة السينمائية، يمكننا بسهولة تشبيه هذا الاختيار المتاح، بالطريقة التي يقدم بها المخرج والممثل الوحيد دوريه في الفيلم.. حيث يمثل تارة، ويُخرِج أخرى.. وقد ينتقد تصرفاته أحيانا إن أراد تصحيحها وتطوير شخصيته نحو الأفضل.
كل ما سبق يؤكد أن مصير الإنسان بيده وحده.. فلا داعي للاستمرار في لوم القدر وتعليق الإخفاقات على شماعة الظروف.. فإن كنت كئيبا، حزينا أو بائسا.. لا تبحث عن الأسباب خارج الذات، فالكل منحصر داخل بوتقة الفكر.. فكر الإنسان نفسه..
وفي محاولة ثانية مقتبسة من خيالي، أحببت أن أجعل من المخرج كيميائيا، لا يكتفي فقط ببلورة الأدوار والسهر على تقديم أحسن أداء.. بل يستطيع إحداث تغييرات كيميائية في دواخل النفس، المركبة من أحاسيس وقناعات ومبادئ وأفكار.. فيبدأ في كل مرة بإضافة بعض المواد، وخلطها، وتحفيزها.. ثم حرقها في بعض الأحيان أو تبريدها.. والمخرج الناجح هو من لا يعيد تكوين نفس التركيبة الفاشلة مرتين، بل هو من يستطيع تذكر المعادلات الناجحة، واستخدام كل واحدة منها في الظرف المناسب.
إنه الإنسان.. إنه أنا وأنتَ وأنتِ.. أعظم الكائنات.. إنه المخلوق الوحيد الذي نفخ الله فيه من روحه.
قد يكون الشخص اجتماعيا أو انطوائيا.. مرتبا أو فوضويا.. مثقفا أو أميا.. مشهورا أو مغمورا.. كل هذا لا يهم.. فمهما اختلفت حياته، يبقى متمسكا ببعض المواصفات البشرية، التي يكفيها أن يكون الواحد منا إنسانا لترتبط به.
كلنا نولد على الفطرة.. فلا نعرف حقدا ولا حسدا.. ولكن حب التملك الذي ينمو في دواخلنا، يدفع كل واحد منا إلى البحث عن واحد من اثنين: "عدو أو صديق".. وهناك من يحب امتلاكهما معا.. أو قد يبدأ في اللعب بالميزان فإما يثقل كفة الأصدقاء أو كفة الأعداء.. كل حسب مقدوراته ورغباته.
الغريب في هذه النظرية، أن الإنسان يستطيع أن يجعل من نفس الشخص عدوا أو صديقا.. حسب اختياره.. فتجد الطالب أو الأستاذ أو الموظف يصاحب بعضا من زملائه، ويعادي الآخرين لأسباب، قد تبدو في نظره مهمة.. ولربما يكون باختياراته تلك، قد خسر صديقا أو صادق الشخص الخطأ.
إنه ناموس المجتمع الإنساني..
ولضرب مثل آخر أكثر شيوعا وبساطة بل وأكثر خطورة.. نستطيع تحليل العلاقة الكامنة بين مشجعي فرق كرة القدم.. فالمشجع اختار صديقه -أي الفريق- وجعل من كل مشجعي نفس الفريق أصدقاءه.. كما عادى كل الفرق الأخرى ومشجعيها.. وقد يكون اختياره عقلانيا، بناء على إعجاب منه، بمهارة اللاعبين، أو تاريخهم الكروي، أو بطولاتهم.. وقد يكون تافها.. فيكون اختياره مبنيا على لون الفريق المفضل لديه.. أي أنه اختار صديقا بلا معايير، واكتسب مع اختياره ملايين من الأصدقاء العشوائيين.. وهنا تكمن الخطورة.. فهذا النوع من البشر يتصرف بدافع الحماس الزائد.. فيحتج إن خسر فريقه، ويعلن فرحته إن ربح.. وتجده في الحالتين معا، يُكَسر ويحطم كل ما يصادف طريقه، ويخلق المشاكل.. بل قد يصل به غباؤه أحيانا إلى حد العراك أو القتل.
وكلما ألتفتنا من حولنا، لا بد لنا أن نصادف الكثير من الأمثلة الحية في محيطنا.. كعلاقة الجيران ببعضهم، والإخوة فيما بينهم…إلخ.. التي يحتاج سردها وتحليلها إلى الكثير من الكلام.. ولكن أكثرها أهمية هو علاقة الإنسان بنفسه.
ففي داخل كل منا، يوجد جزء صالح وآخر طالح.. ويبقى أساس كل ما قد سبق ذكره، نابعا من العلاقة بين مكوني هذا الإنسان المركب.. فالجزء الصالح منا ولو كان ضعيفا عليه أن يجاهد لترويض الجزء الثاني.. وسينجح لا محالة.. في محاولة لتكوين ذلك الإنسان الإيجابي البناء.. كما لا يمكن إنكار دور الجزء الأكثر شراسة، في درء أي سوء قد يصيب الصالح بسبب سذاجته -دون غلو-.. فالسر إذن في التوازن الصحيح.
أما معاداة الشخص لنفسه، ستدخله في صراع دائم بين الخير والشر.. سيستمر في الاشتعال بدواخله.. وقد يتغلب الشر يوما، فيصنع منه إنسانا سلبيا، مخربا.. في انعكاسٍ لصورته عن نفسه على مرآة المجتمع.
التغيير يبدأ من العمق.. والإصلاح يبدأ من الداخل.. فكيف لنا أن نصلح مجتمعا نُعتبر جزءا منه، ونحن لم نتمكن إلى الآن من إصلاح أنفسنا.. مصداقا لقوله تعالى: " {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} ". صدق الله العظيم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.