شمس بلدتنا ذهبية فعلا! لونها وخيوطها الضوئية، هي التي كنت أقرأ عنها في روايات الحب، للشروق فيها معاني عميقة كمعاني الصوفية الطلسمية العصيّة على التفكيك ولكل إشعاع فيها رمزية وتفسير ولا تحتاج للولوج في هذا اليم إلى تعليم فحسب.. بل افتح قلبك قبل عقلك وأنت تفهم كل شيء.
مع صياح الديكة عندنا صباحاً تبدأ طقوس الفلاحين اليومية والمتشابهة من لدن الفلاح الأول في التاريخ وعلى أصوات ماكينات ضخ الماء أو "ماكينة الميه" كما تسمى بالطريقة المحلية والتي تشق بمحراث الصبر سواد الساعة التي تسبق آذان الفجر بقليل.
الريف لدينا عالم دولي بأكمله لا يختلف عن العالم الموجود تماماً الآن أمامنا عبر الشاشات الصغيرة ويستطيع أصغر قروي أن يجلس ويتحدث في السياسة مثله مثل أي محلل سياسي تماما ولا فرق، وأيضاً من صفاته أنك من الصعب جداً أن تقنعه بفكرة هو لا يرضى ولا يقبل أن يدخلها إلى عقله مهما فعلت من أجل الشرح والتفسير، وفي اعتقادي أنه يجب على الدبلوماسيين قبل أن يغادروا إلى العالم ليتحدثوا باسم بلدانهم أن يأخذوا جولة سريعة في الأرياف المصرية ليعرفوا "الأصول المصرية الريفية" ومعرفة أنماط مفهوم "الواجب" و"العرف" و"الأصول" و"العيب".. وكيف تتم المجاملات والتعارف بين الناس ومتى تجامل؟ ومتى تصمت؟ ومتى تغلق أذنك؟ ومتى تداهن لتصل إلى ما تريد؟ وأين تضع قدمك القادمة في طريق الحياة الترابي. فالفلاح ليس غبياً أو ساذجاً كما صوّرت لنا أفلام المخرج صلاح أبو سيف، بل هو ذكي ولكنه يتغابى ليعيش في عالم أحمق يكره الأذكياء ويمقتهم ويغضب أشد الغضب عليهم.
أرياف اليوم لم تعد ذلك الريف القديم الهادئ الممتع.. فالأسرة الكبيرة التي كان يعمل فيها الجميع كمعسكر واحد صوب مصلحة عليا، انقسمت اليوم إلى أسر نووية صغيرة بلغة علم الاجتماع، وعاد الكبير أو الكبيرة التي تصارع من أجل حفظ "لمّة العائلة" محدودة السلطات جداً حتى أنها أو كلاهما لا يملك إلا أمر نفسه فقط، هذا إذا بقيا لم يفرق بينهما سيف العمر أو سيف الجحود.
ليست النظرة متشائمة جداً بهذا الوضع الكارثي، ولكن الصورة الكاملة للأرياف التي رأيتها جعلتني أخاف بشدة مما نحن مقبلون عليه، فلم يعد الريف ريفاً كما كان أو كما عشت بقاياه في نزعه الأخير قبل أن أسافر، والذي يقلقك بشدة هو السؤال الذي دار في ذهني وأنا أمشي في أحد الحقول وأمامي فلاج كبير في السن، هل سينقرض الفلاح يوماً وتنتهي أسطورة الفلاح الأول في الوجود؟
لا أعلم ولكن كل ما أعرفه هو أن الكثير جداً بل وفي عمق الريف ترى "الورش" التي فتحها أحد أبناء الريف الذي تمرد على الأرض وسافر إلى المدينة ليعود وقد هجر الفلاحة وأصبح "صنايعي" كسيب لا يشق لجيبه غبار، في حين بقي شقيقه الذي أقسم بقدسية الأرض وشرف التراب فقيراً معدماً، بالكاد يستطيع أن يأتي بالكيماوي للأرض لتحدث دورتها الزراعية لمحاصيل عادت لا تؤتي ثمارها، أو أن يهجر الأرض غاضباً كخيار آخر فيسافر إلى الخارج، مما أدى قي حقيقة الأمر إلى تشرذم خطير في بنية الأسرة الريفية المتماسكة جداً فلم يبقَ في الحقل إلا ولد واحد مثلا لتبقى الأرض مزروعة أو أن يقوموا بتأجيرها للغير أو للذين لم يجدوا حظا لا في صنعة ولا في سفر وتنتهي علاقتهم بأرض أبيهم حتى ولو كانت قراريط صغيرة لا تعود بالنفع الكثير.
الناس هنا في الأرياف عادت لا تنشغل بالسياسة كثيراً، وخاصة في الفترة الأخيرة، وكل ما يهمها فقط هو أن تعمل وتعود آخر النهار وجيوبهم "عمرانة" ليصرفوا على أهلهم أو من في رقبتهم، وباتت أحلام الثورة وإرهاصات المستقبل الثوري والتغيير الذي يحلم به كثير كـ"خيط دخان" الذي غنى له المطرب الذي خرج يوماً أيضا من القرية وهو عبد الحليم حافظ في رائعة الشاعر نزار قباني "قارئة الفنجان"، لا أعلم هل هو حقاً خيط دخان أو أنه دخان لنار مشتعلة في أسفل كومة القش التي وضعها الفلاح يوما أمام أرضه ليتخلص منها قبل أن يلاحظ أحد أو حتى أن تقرأها العرّافة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.