لستُ أدري ما المميّز الذي سيضيفه نصّي هذا وقد كتب كبار الشّعراء والكاتبين من قبل عن الأمّ، إلاّ أن كلاًّ منهم كتب عن أمه فلأكتب لكِ وعنكِ وإليكِ اليوم.. عسى الأسطر القليلة هذه تترجم لكِ ما عجز لساني عن بوحه. لكنّي لن أخبركِ بحبّي فقط.. سأخبرك أيضا أنّي آسفة..
آسفة، لأنّك في كلّ مرّة صرخت فيها خوفاً عليّ، رددت بالصّراخ وبالـتّمرد والغضب. كم لزمني الأمر لأستوعب أنك ما زمجرت إلا حبًّا، وما حدّجتني بنظرات اللّوم والغضب إلّا إشفاقاً وحنوًّا.
آسفة، لأنّني ما جئتك يوماً فور احتياجك لي.. مع أنّ بكائي لطالما أقلق مضجعكِ، وحرمكِ من نومكِ، لتزيحي عنّي الدّمع.. تخبرينني أنّه كابوس وسينتهي لا محالة. واليوم حين تبكي روحي ولا يفضحني ماء العين، أجدك تسألينني ما بكِ إنّي أرى روحكِ تتألّم. دون أن أسألكِ قربكِ أجدكِ بجواري حين أعجز عن ضمّ نفسي، حضنكِ يسعنا كلتينا.
آسفة، لأنّني أحمِّلكِ فوق طاقتكِ، أتوقع منك الكثير الكثير.. بينما أنتفض أمام أقلّ القليل الذي تطلبينه منّي، تعملين دون أن تشتكي من آلام مفاصلكِ أو ظهركِ أو صداع رأسكِ.. وآتي في آخر اليوم لأتذمّر من كثرة الدّروس وصعوبة المقرّر، أجدك تواسينني وأنت أحقّ بهذه المواساة، أحقّ بذلك البَوْح، أحقّ بكلمات تحمل لكِ أملاً ورجاءً ودعْوةً للصّبرِ.
آسفة، لأنّي حين أحطّ رأسي على وسادتي أنام، بينما يأخذك التّفكير بعيداً عن النّوم، تتعبين في ملاطفته.. لكنّ قلبكِ يأبى أن ينصاع لهذا السّلطان، تتأملين في مستقبلي، تتبصّرين في حالي، تخشين لئلَّا تتحققّ أحلامي، فأنكسر معها وأصبح أرملة الفؤاد ثكلى الأحلام.
آسفة، لأنّكِ -وبالرّغم من ضعفك- لا تنفكّين تبعثين فيّ قوّة أنتِ أعْوز وأفقر إليها، تبثين فيّ الأمل رغم سأمكِ.. تخبرينني أن أثق بالله الذي لا يخون وبنفسي التي لن تتركني، ونفسكِ تركتكِ يا أمّي ترعاني وترعى أحلامي دونما وعي منّي.
أنا آسفة يا أمي، لأنّك تسألين، تطمئنين، تخمّنين وتحتارين دائما لحالي، قلبكِ وفكركِ معي.. وقلبي وفكري تشتتّا في اتجهات مختلفة. لكِ تلك القدرة سيّدتي أن تضمينا كلّنا في قلب واحد، وأن تهبينا من نفس المنبع الذي لا يجف ولا ينقضي، نفس الاهتمام والحبّ. أهو قلبٌ ذاك يا أمي؟ أم جنّةٌ غير تلك القابعة تحت قدميك؟
آسفة.. لأني ومنذ أن ولدت لا أنفك أطلب وأطلب وأطلب.. وتعطين بسخاء ودون مساءَلة، لكنّي أتقاعس إن أنتِ يوما طلبتِ منّي شيئا..
آسفة لأنّي أُغضب قلبك المنهك هذا كثيراً، وأعود لتسامحي زلاّتي دائما. سبحان من بثّ فيك هذا العطف والوئام.. تسكبين منه دون حساب، وإذا فتّشت عمرك حبيبتي فلن ألقَى سوى الحبّ. أتساءل يا أمي إن كنت سأصبح يوماً مثلك إن أنا رزقت أطفالاً.. أهذا العطف مزروعٌ جينيّا في الإناث كافّة أم في الأمهات خاصّة؟ أنتِ بحِلْمكِ هذا كائن فوق سائر الكائنات.
أأكون قاسية عديمة الرّقة حين أعلم بوهنك وأغضبك رغم هذا؟ ولكن لماذا يا أمي؟ لماذا تغفرين لي دائما؟ رغم غلاظة قلبي؟ إنّ عفْوك هذا يجعلني صغيرة في نفسي.. لا أساوي شيئاً.. ربّما أُقلقُكِ لأنّي أدري أنك ستصفحين في آخر المطاف.. تماماً كما أعرف أن ربّي يقبلني على علاّتي ويتغاضى عن أخطائي.. وحدك يا أمي تقبلينني بعيوبي وترينني بعيون الحبّ.. ونواقصي تكّملينها وتجمّلينها حين تتعامين عنها.. وكأنها لا توجد.
أنا لا أستحقك، وأخشى أن لا أستحقك يوماً، كلانا متعب يا أمي، أنت تحاولين رفعي وأنا أهدّم وأعيث في قلبك خرابا.. اغفري لي فإنّي لا أعيش إلا برحمتك ورحمة خالقي وخالقك. اغفري لي فأنا مهما كبرت أظلّ عند حضنك طفلة أتدللّ، اغفري لي كي لا أضيع وأهيم، اغفري لي حتّى أتعلّم ألسنا من أخطائِنا نتعلّم؟
أيا يدٌ تمدّ العون دون سؤال، وقلبٌ يمنح الحبّ لترتوي أرواحنا الجافّة.. اغفري. فإنّي لولاك لما كنت ودونك لن أكون.. يا قطعةَ من روحي مهما ابتعدت وجُبت الدنيا بما رحُبت محالٌ أن أرى صدرا أحنّ عليّ من صدرك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.