براءة، حب وسذاجة.. نأتي إلى هذه الحياة كثوب أبيض يشع نقاءً، فتبدء الحياة بتدنيس ذلك الثوب كلما سمح لها القدر بذلك. لست من الحماقة لكي أقول إن الحياة جميلة، بل سأقول إن الحياة بحر متمرد هائج وأحياناً هادئ وقليل هم الذين يتقنون السباحة! أما أنا فما زلت تلميذة في علوم السباحة الدنيوية، ما زلت أخاف غضب البحر! الحياة والبحر أصدقاء في المكر وبطبيعتي لا أحب السباحة، أكتفي برؤية البحر من بعيد، أخاف من مزاجيته فهو بإمكانه أن يهيج في أعز هدوئه!
في هذه الليلة القطبية، أعود بالزمن إلى الوراء. في ربيعي السادس، كنت فرحة لأول دخول مدرسي.. ملابس جديدة، وزرة بيضاء وكثير من الكتب. لم تكن طفولتي وردية بل كانت طفولة نُضج! عادة ما تكون الأسرة مكونة من أم، أب وإخوة.. أسرتي كانت مكونة من أمٍ، جد، جدة وأخوال! كانت أسرة كبيرة، سعيدة وكنت محبوبة الجماهير أو بالأحرى كنت الحفيدة المدللة.
تربيت وسط أسرة محافظة ونسخت فيا تجارب 3 أجيال! كانت أمي مصدر قوتي وإصراري على الحياة. عانيت الخطف والخوف من طرف أسرتي الأبوية، عرفت الألم والأسى في عمر كان يجب أن يكون فيه كل همي هو بأي دمية سألعب.. لننسَ الحزن فهذا ماضي مضى!
في أول دخول مدرسي كنت فرحة كثيرا، لكن فرحتي باتت قصيرة! في ثالث أسبوع دراسي، اقتنعت بأنني لا أريد الدراسة، أكرهها ولم أخلق للدراسة. كيف لفتاة في ربيعها السادس أن تأخذ قراراً كهذا؟ ذهب كل أفراد عائلتي الكبيرة إلى المدرسة للاستفسار عن الأمر، أقيم اجتماع مع المديرة والمعلمين لمعرفة سبب هذا العزوف الدراسي المبكر! بعد مناقشات دامت ساعات، فهموا أنني لم أتأقلم مع أطفال جيلي ولم أحب دكتاتورية المعلمين.
كبرت وعرفت أن ديكتاتورية المعلمين أهون ألف مرة من ديكتاتورية الوطن! قرروا أن يعطوني عطلة لمدة أسبوع لكي أرتاح وأتراجع عن قراري. فرجعت إلى الدراسة، رجعة بلا عودة! أحببت الدراسة، فكانت هي حبيبة قلبي وسلاحي. كانوا يسألوننا عن أحلامنا المستقبلية، فكانت جميع الأجوبة متشابهة: طبيب أو طبيبة. عكس الأطفال كنت أريد أن أصبح امرأة أعمال. رغم نضج الكلمة وصغر سني، فكنت أقولها بثقة وصرامة.. الحرمان يعلمنا القوة فالضعف مرفوض. مرت السنون، غربة، معاناة وسهر الليالي لكي أدرس أخيرا الهندسة الإدارية واستشارة الأعمال وأحقق حلمي الصغير الذي أصبح كبيرا! في الغربة فقط نعرف قيمة الوطن. "من أين أنت؟" سؤال يعيش معنا إلى الممات. الصبر يكون أحسن صديق في الغربة، صعب علينا تقبل مرارة طعم الغربة.. وجوه عابسة، ابتسامة غائبة، عيون جافة، برد كاسح، شاي مشمئز، طماطم تعاني من فقر الدم وجو يستنشق أنفاسه الأخيرة. أتساءل عن السبب الذي يجبرنا على ترك ذلك الوطن الحبيب، على ترك رائحة الشاي بالنعناع الصباحية، ترك الابتسامة والحنان الأسري، ترك البساطة والتقاليد. الأسباب متعددة لكن النتيجة وحيدة! هل سمعتم يوماً عن يتم المغتربين عن أوطانهم؟ نعم فالوطن أحيانا يقتل أطفاله، يحرق أحلامهم و يجبرهم على الرحيل بلا عودة، فيعيشون الدهر بدون هوية! إلا أنني ما زلت تلك الطفلة المدللة، التي كلما ابتعدت عن وطنها حزنت، غضبت وتمردت فبات الرجوع إلى حبيبها "الوطن" حلما.. فإن كان طعم الغربة مرًّا وواقع الوطن ملعون فحب وطني فطرة.
اليوم في ربيعي الثالث والعشرين أتساءل ما هو مصير طفلة قاطعت الدراسة قبل بدايتها؟ ماذا لو لم أجد حلا؟
كانت ستكون حياتي بدون معنى! في هذه الثواني، يوجد أشخاص تعيسون، منهارون ومغتربون! بسبب الفقر، الحرب، العائلة، الحب.. عن طريق هذه الأسطر القصيرة، أريد أن أذكركم أن لا معنى للحياة بدون طموح! لا تنسوا أنه دائماً وأبداً ستجدون حلاً، فمع العسر يسراً. تألمت، تعلمت، درست ونجحت!
تلك الطفلة المرتجفة أصبحت سعيدة، مثقفة وطموحة.. فوراء كل امرأة ناجحة، رب رحيم وأم رائعة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.