ما إن دلف بوابة القاعة، حتى شرع ذلك العجوز الأردني دكتور مادة الإحصاء الرياضي بتحية طلابه ثم بدأ محاضرته التي كان موضوعها على ما أذكر "التحليل المنطقي"، وفجأة في أثناء شرحه لمحت عيناه ما لم يتوقعه في محاضرته، وتغيرت ملامحه وظلت عيناه شاخصة نحو الكراسي الخلفية للقاعة، لدرجة أثارت الفزع والحيرة في أنفس جميع الطلاب, فترك منصة القاعة وسار بانفعال إلى آخر القاعة ونحن ننظر إليه بارتياب حتى لمحناه وهو يرفع ورقة من على الأرض وعاد إلى المنصة وهو يقول بأسى وبصوت مسموع للجميع:
ألا تخجل يا بني من أن ترمي ورقة فيها أحرف وكلمات عربية على الأرض؟
ثم أردف قائلاً: ألا تعلم أن لهذه الأحرف قدسية خاصة عندنا نحن المسلمين على الأقل، كونها هي التي شكلت اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.. فكل حرف يرمى على الأرض ما هو إلا إهانة لهذه اللغة المقدسة!
تذكرت ذلك الموقف وأنا أقرأ أحد المواضيع الشائقة في موقع "هافينغتون بوست" لصانع الأفلام الوثائقية "أسعد طه"، وهو يتحدث عن أحداث حرب البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي، وكيف أن بعض العائلات الألبانية بدأت تتفحص أسقف وأعمدة بيتها، بعد أن تبين لبعضهم أن قدماء مَنْ عاشوا في تلك المناطق جمعوا المصاحف والمخطوطات وغلفوها جيداً وربطوها إلى الجدران، ثم صبّوا عليها الإسمنت ليخفوها عن أعين الشرطة، ثم تبين لاحقاً عندما اكتشفها أبناؤهم وأحفادهم أن هذه المخطوطات ما هي إلا مجلات عربية، ولكن الحرف العربي هو من أوحى لهم بأنها مخطوطات وكتب مقدسة.
تساءلت حينها: هل نحن فعلاً نقدر هذه اللغة المقدسة التي اكتسبناها منذ صغرنا بينما هناك الكثير من المسلمين غير المتحدثين بالعربية يتمنى أن يحسن التحدث بها، فنحن لدينا لغة عظيمة من أسمى وأجمل لغات العالم كونها تحوي مفردات جمّة لكل شيء قلما نجد مثلها في أي لغة أخرى حول العالم، ما يجعلها لغة ذات خيال خصب وأكثرها غزارة في التعامل مع الكلمات، فعندما تحاول وصف شيء معين تجد عشرات الكلمات والاشتقاقات تعينك على ذلك.
وبحسب آخر الإحصائيات التي رصدتها صحيفة "الإندبندنت" البريطانية لعام 2015 حلت اللغة العربية في المرتبة الخامسة لأكثر اللغات الحية في العالم، حيث ينطق بها نحو 242 مليون شخص، ولا ننسى أن منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة "اليونسكو" حددت يوم 18 ديسمبر/كانون الأول من كل عام يوماً عالمياً للغة العربية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية هذه اللغة عالمياً، وما يعزز ذلك هو أنها لغة أكثر الديانات انتشاراً على وجه المعمورة وهي الديانة الإسلامية، وإلى جانب أنها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم فهي أيضاً لغة الأحاديث والسنة النبوية المأخوذة من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهي أيضاً التي نقلت لنا الإرث الأدبي العريق والجميل عن شعراء الجاهلية وما بعد الإسلام الى يومنا الحاضر.
وقد صنفت على أنها من أصعب اللغات عالميا كونها تحوي قواعد نحوية وإملائية كثيرة، ولعل جميعنا يعرف أن الله تعالى قد تحدى قوم قريش بأن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن، وبعد أن تبين عجزهم طلب منهم أن يأتوا بعشر آيات مثله، وفي الأخير تحداهم أن يأتوا بآية واحدة فقط فعجزوا تماماً عن ذلك، ولم يأتِ هذا التحدي إلا لإثبات متانة وقوة هذه اللغة، فما من لغة أخذت مثل هذا الشرف والمكانة.
فيجب على كل الهيئات والجهات المهتمة بأمر اللغة العربية تكثيف الجهود وتوجيه الطاقات من أجل الحفاظ على هذه اللغة العريقة واستغلال التكنولوجيا المتسارعة وإيصالها إلى أن تكون اللغة الأولى عالمياً، وذلك لن يأتي إلا من خلال الإدراك بأهمية الانتماء لهذه اللغة ومن خلال المحافظة عليها من زحف اللغات العالمية الأخرى وأهمها اللغة الانكليزية.
ولعلنا نستشهد هنا بمقولة مصطفى صادق الرافعي المشهورة: "ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلاَّ ذلَّ، ولا انحطَّت إلاَّ كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبارٍ"، أما شاعر صقلية "أجنازيا بوتينا" كان أكثر مصداقية عندما قال: "ضع شعباً في السلاسِل، جرِّدهم من مَلابِسهم، سُدَّ أفواهَهم لكنَّهم ما زالوا أحراراً، وجَوازات سفرِهم والموائد التي يأكُلون عليها والأَسِرَّة التي يَنامُون عليها لكنَّهم ما زالوا أغنياء، إنّ الشعب يفتقر ويُستعبَد عندما يُسلَب اللسان الذي ترَكَه له الأجداد وعندئذٍ يضيعُ للأبد".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.