الاقتصاد غير المنظّم أو قوّة الضعفاء

الغريب في الاقتصاد غير المنظّم هو إتاحته لمبدأ التفاوض في الأثمنة على عكس الاقتصاد الرسمي. في نظركَ، مَن الأحقّ بالتفاوض؟ الأصح هو عكس القاعدة والسّماح بالتفاوض في الاقتصاد الرسمي، خصوصاً في إطار الأنشطة التي تدخل في اقتصاد الرخاء (économie de luxe). حقيقة اقتصاد بلد ما توجَد في سراديبه المظلمة، فيما يخفيه تحت قصاصات بحوثه الرسمية، فيما وراء الإحصائيات الرسمية. الاقتصاد غير المنظم يعكس تاريخاً بأكمله، بكلّ تغيراته وتطوراته المتوالية وليس سوى سطرين في قانون رسمي حديث يقرّ بضرورة شطب وجود أي تجلٍّ للاقتصاد غير الرسمي في البلد.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/22 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/22 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش

الاقتصاد غير المنظم أو غير الرسمي -أو ما يُصطلح عليه كذلك اقتصاد "تحت الطاولة" و"خارج الدفاتر المحاسبية"- ظهر لأول مرة في بحث لمنظمة العمل الدولية (ILO : International Labour Office (BIT: Bureau International du Travail حول عصرنة الاقتصاد الأفريقي سنة 1972.

ما بين خمسينيات وثمانينيات القرن الماضي، عرفت أفريقيا انفجاراً ديموغرافيا متنامياً على عكس النمو الاقتصادي. نمو ديموغرافي وَصل إلى 6% في الأوساط القروية و10% في المدن سنوياً، مع العلم أن فرص الشغل المضمونة في المجال الرسمي لا تتجاوز 2%. وبذلك جاء الاقتصاد غير الرسمي كنتيجة طبيعية وعادية لاحتياج المرء لمصدر يسترزق من خلاله أو بالأحرى مصدر يضمن استمراره في الحياة.

الاقتصاد غير المنظم يُعْرف عادة كمجموع الأنشطة الاقتصادية التي لا تَخضع للضّرائب والتي لا يتمّ مراقبتها من قبل الحكومة والتي لا تدخل ضمن الناتج القومي الإجمالي (PIB). غير أن مثل هذه التعريفات تَحْصر الاقتصاد غير النظامي في نظامَي الضريبة والمراقبة، والواقع أن هذا النوع من الاقتصاد لا يعكس هرب المرء من الضرائب والمراقبة، بل هرباً من الموت الذي أثّثته له الحكومة. الدولة التي وَلَدت الاقتصاد غير المنظم من أحْشائها ليس لها سوى أن تعترف به كنتيجة عادية لسياستها التي لم تكن السّند لأفرادها. ففي آخر المطاف لا يمكنك مَحو ما تَمخَّض عن قراراتك، بل عليك الاعتراف به ومحاولة إيجاد حلّ لتقنينه تدريجياً.

الاقتصاد غير المنظّم ليس سوى متنفَّس للمجتمع الذي وجد نفسه خارج إطار العمل الرسمي تحت منظور تاريخي، الأنشطة غير الرسمية ليست هرباً من الضريبة وقوانين الدولة وإنّما أنشطة ضامنة للعيش الكريم. سياسات برنامج التكيف الهيكلي (plan d'ajustement structurel) المبرمج من طرف صندوق النقد الدولي (FMI) كانت لها يد بدورها في تقليص قيمة القطاع العمومي، وبالتالي توجّه الفرد نحو القطاع غير المنظّم أمام سياسة تقليص عدد الموظفين الحكوميين وتقليص الرواتب الخاصّة بهم.
و بذلك فمن المؤكّد أن للنظام غير الرسمي دور مهم في امتصاص الفراغ الذي يخلّفه النظام الرسمي بسبب -أو بفضل- الاختيار المقنّن والمتْقَن لأفراده.
هنا يأتي التساؤل.. أيجدر بالدولة – إضافة للقطاع الأولي، الثانوي والثالث – الاعتراف بالقطاع غير المنظّم كرابع قطاع اقتصادي؟ أم أنها ستقف في الوسط كالعادة؟ أو ربما ستقرر ألا تقرر شيئا كما ألفناها؟

الغريب في الاقتصاد غير المنظّم هو إتاحته لمبدأ التفاوض في الأثمنة على عكس الاقتصاد الرسمي. في نظركَ، مَن الأحقّ بالتفاوض؟ الأصح هو عكس القاعدة والسّماح بالتفاوض في الاقتصاد الرسمي، خصوصاً في إطار الأنشطة التي تدخل في اقتصاد الرخاء (économie de luxe).
حقيقة اقتصاد بلد ما توجَد في سراديبه المظلمة، فيما يخفيه تحت قصاصات بحوثه الرسمية، فيما وراء الإحصائيات الرسمية. الاقتصاد غير المنظم يعكس تاريخاً بأكمله، بكلّ تغيراته وتطوراته المتوالية وليس سوى سطرين في قانون رسمي حديث يقرّ بضرورة شطب وجود أي تجلٍّ للاقتصاد غير الرسمي في البلد.

في المرّة القادمة حين تسير على جنبات السوق، لا تَنفر من البائعين المتجولين ولا من الأطفال بائعي الأكياس البلاستيكية، فَهُم في الواقع لم يختاروا أن يحرقوا جلودهم تحت الشمس كل يوم في محاولة لترجّي المارة لكي يشتروا بعضاً من بضاعتهم المصفوفة فوق الرصيف. الأمر أعمق من مجرد لانظاميات ولا رسميات. الأمر أعمق وأقبح مما كنا نتصوّر.
للتاريخ مآسيه دائمة الحضور ليومنا هذا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد