#وجدتُ_حلاً| ليلة الـ26 من مارس- آذار

يا سادة أنا أتحدث عن شعب عاش أبشع أنواع اللاإنسانية، شعب حُشر بين الظلام، وجاور الفقر، ذاق التشرد، وجرب صقيع الموت مراراً، هُدم منزله، تيتم أطفاله وترملت نساؤه ، باختصار: شعب تعايش مع كل ما لا تتوقعه الإنسانية ولا يخطر على قلب شخص لم يعرف معنى الحروب، وأي حروب؟ الحروب عادة ما تكون بين طرفين معلومين وبعيدة عن المدن، ولكنهم وجدوا أنفسهم وسط ساحة معركة لم يعرفوا بوجودها حتى، لم يُعطوا حق الاختيار أو حق الفرار.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/21 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/21 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش

في تلك الليلة وبعد قضائي ليوم صيفي كسائر الأيام، لم يخطر في بالي قط أنني قد أستيقظ على تلك الأصوات، تلك النظرات المذعورة، والمليئة بالتساؤل، هكذا كانت ردة فعلي وأهلي في ليلة 26 من مارس/آذار من العام 2015.
في الوقت الذي بدأنا فيه أنا وعائلتي بالتساؤل عن مصدر تلك الأصوات المرعبة، كانت هناك الآلاف بل الملايين من الأسئلة المشابهة التي تفجرت من داخل العاصمة صنعاء. صحيح أننا شبه متعودين على هكذا مواقف: أقصد أصوات الانفجارات التي قد تنفجر في أي لحظة، فنحن ومنذ ما يزيد عن الخمس سنوات نعيش في قلقل دائم، ولكن مع مرور الأيام ودوام الحال، أصبحنا نعتبرها كجزء من حياتنا ولم نعد نقف عندها طويلا، عاصرنا كل أنواع الحروب، ابتداء من قيام ثورة 27 يناير/كانون الثاني 2011 وكل الأحداث الرهيبة التي حدثت في تلك الفترة، وانتهائها بسيطرة مليشيات الحوثي على العاصمة والمدن الأخرى، كل تلك الأحداث لا تساوي نقطة في بحر الخوف الذي شعرنا به في الساعة الواحدة من تلك الليلة.

أتحدث هنا عن شعب قلب حاضرة ومستقبلة في ليلة واحدة، شعب عانى كل أنواع الظلم والاستبداد من قبل، ولكنه أحس وعن خبرة أن الأمر مختلف تماماً هذه المرة، بغض النظر عن النظرات المشبعة بالفزع والعيون المترقبة التي تسمرت أمام شاشات التلفاز حتى الساعات الأخيرة من صباح ذلك اليوم، إلا أنه وجب عليه استبدالها، استبدال تلك النظرات التي كادت تحرق الشاشات من فرض المفاجأة بشيء آخر، هنا اختلفت ردة الفعل، البعض ارتدى الغضب كردة فعله الخاصة، والبعض الآخر اكتفى بارتداء اللامبالاة -لأنه في اعتقاده أن ما يحصل لن يكون أسوأ مما حصل- أما الجزء الأكبر فاستمر على نظرات الفزع، لقد أحسوا بالخطر.

يا سادة أنا أتحدث عن شعب عاش أبشع أنواع اللاإنسانية، شعب حُشر بين الظلام، وجاور الفقر، ذاق التشرد، وجرب صقيع الموت مراراً، هُدم منزله، تيتم أطفاله وترملت نساؤه ، باختصار: شعب تعايش مع كل ما لا تتوقعه الإنسانية ولا يخطر على قلب شخص لم يعرف معنى الحروب، وأي حروب؟ الحروب عادة ما تكون بين طرفين معلومين وبعيدة عن المدن، ولكنهم وجدوا أنفسهم وسط ساحة معركة لم يعرفوا بوجودها حتى، لم يُعطوا حق الاختيار أو حق الفرار.

هنا حدثت معجزة، هذا الشعب المنهار لم ينسحب من المعركة، بل صنع لنفسه حرب جديدة، حرب من نوع آخر، ليست عادلة ولا متكافئة الأطراف من وجهه نظره، ولكن منذ متى وللعدالة مكان بين الحروب!
قرر إيجاد الحلول للمجازر التي تحدث كل يوم، حاول إيصال صوته وطلب يد المساعدة من كل من يستطيع أن يقدم له يد العون، ولكنه لم يجد سوى الصمت..

في ظل الأوضاع المتدهورة، قلَّت الخدمات الطبية، الأطباء والممرضات لم يعد لهم وجود في بلد صب اعتماده على العمالة الأجنبية والتي من المستحيل لها أن تبقى في ظل هكذا ظروف، فصار التطوع هو الحل الوحيد، لمساعدة الجرحى والمرضى الذين صاروا بلا طبيب، ليس مهماً مَن أنت، معلم أم مهندس، شيخ أم تلميذ، غني أو ربما فقير، المهم أن تقدم يد المساعدة. في ظل انعدام الأمان، هرع آلاف الشباب وحتى كبار السن ومعهم الصبية والمراهقون، لنجدة المصابين وانتشال الجثث من بين الركام، للتبرع بالدم، أو لتوفير مأوى للنازحين ممن فقدوا منازلهم بسبب صاروخ طائش أو طائرة أصابت سائقها بالعمى، حكم عليهم العيش في الظلام نظراً لانعدام المشتقات النفطية مع الحصار المفروض على المدينة، وغياب ما يسمى بالحكومة، لم تعد كلمة كهرباء تعني لهم أي شيء فهم قد نسوا معنى الكلمة، ولكنهم لم ينسوا ذلك الاختراع "الإلهي" المسمى بالشمس، استبدلوا الكهرباء بالطاقة الشمسية، وهاهم قد وجدوا حلا آخر، قرروا المشي لعدم توفر المواصلات، واستبدلوا الغاز بالحطب، استبدلوا سقوف منازلهم الدافئة بساحات المدارس الباردة، وهكذا مع كل أزمة تطفو إلى السطح حاولوا إيجاد الحلول الممكنة لها، في ظل انعدام أقل مقومات الحياة عاش الشعب اليمني تحت الحصار، ينامون ويستيقظون على أصوات التفجيرات، اليوم هذا الجبل وغدا ذاك، بعد غد تلك المستشفى، أو ربما هذه المدرسة، ومن يعلم، قد ينفجر المسجد بكل من فيه بسيارة مفخخة نسي صاحبها أن يبلغ المصلين متى ستنفجر بالضبط، حتى يتجنبوا الصلاة في الجامع. تعايشوا مع واقعهم بأكبر قدر ممكن من الآمال والتوقعات الإيجابية بغد أفضل.

كوني لاجئة على هذه البقعة من الأرض فقد عانيت الأمرين، إحساسي بالظلم لأني إنسانة من المفترض أنها تبحث عن حياة أفضل، وحزني على وطن قدم لي ما عجز عنه ترابي الأم في يوم من الأيام.
وأخيرا.. بصفتي شاهدة على كل الأحداث المذكورة والكثير مما لم تسعه هذه التدوينة، أستطيع القول إن هذا الشعب فعلاً "وجد حلاً".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد