التطرف الفكري يؤدي إلى انعدام القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها، والتي تقود بدورها إلى استلاب ذهني يمارس المتطرف من خلاله خداع الذات، الاستلاب الذهني لدى المتطرف يتجلى في الطابع المطلق لتفكيره، فكل سؤال له جواب وكل نقد مرفوض وكل تردد مكروه، فالحقائق واضحة لا لبس فيها، ولا يهم عدالة القضية التي يعتنقها المتطرف بل يكفي أن تكون سامية، ولذا لا يتحمل النقاش وأنصاف الحلول لأنها تفسد هالة القدسية المحيطة بها.
يرى المتطرف التسامح ضعفاً والتفاوض خيانة والاعتدال انهزاماً، ولا يريد الإقرار بأن تعصبه إنما هو دلالة على شعوره العميق بالنقص وليس بسبب تمسكه بمبادئه، ونادراً ما يعترف المتطرف بتناقضاته، يقول هنري برغسون: "قوة الإيمان لا تتجلى في القدرة على تحريك الجبال بل في عدم القدرة على رؤيتها وهي تتحرك"!
يتجاهل المتطرف أن الواقع هو الذي ينادي على الفكر ويطلبه، ومن ثم يأتي الفكر مطوراً للواقع ويوجهه، "فالفكر يطور مفاهيمه بأسلوب جدلي حتى يجد فيه الواقع الطبيعي كماله"، الفكر في جوهره وحقيقته هو حركة لاكتشاف المجهول انطلاقاً من آفاق المعلوم، والفكر الذي يسعى إلى الارتداد بالواقع إلى عصور سابقة ليس فكراً أصلاً، وإصرار المتطرفين على أن الغاية من الوجود البشري هو تحويل العالم إلى نظام مثالي يتوافق مع عقائدهم غالباً ما ينتهي باختراق الواقع.
كراهية المتطرفين للحياة انعكاس لألم وجودي ناتج عن واقع يتأبى على الاستجابة لمعتقداتهم، فتراهم "يتهالكون على الموت تهالك الفراش على النار، ولهم في التعطش للموت واستعذابه قصائد وأبيات أنطقت الحجر وروعت البشر"، وعلى الرغم من أن الإقبال على الموت نصرة لمبدأ ما قد يبدو في ظاهره ضرباً من الشجاعة لكنه -أحياناً- فعل هروب من معركة الحياة، فالموت ليس حلاً لأية مشكلة لأنه أداة تجديد لاستمرار هذا الوجود ولا يصيب سوى مظاهره العرضية الزائلة.
غالبًا ما يُعتبر رفض مجتمع ما لمبدأ حرية الاعتقاد والضمير، دلالة لافتة على غياب مفهوم التسامح والتعددية من الأفق الثقافي لذلك المجتمع، وغالباً ما ينظر أفراده بريبة إلى القيم التي تنتمي إلى منظومة ثقافية تختلف عن ثقافته السائدة، ولهذا السبب تنتشر الممارسات القمعية على الصعيد الرسمي في صورة حظر تداول الكتب والمجلات المخالفة ورفض التعددية السياسية والزج بالمثقفين في السجون.
وتظهر مجموعات داخل المجتمع تسعى إلى فرض أفكارها بالقوة عن طريق الإرهاب الفكري والجسدي، حيث تكون المحصلة النهائية ازدهار السلوكيات التي تحرض على العنف، وتروج للأفكار العدائية المبنية على أساس عنصري أو طائفي بغيض.
الاستخلاف في الأرض وقيادة العالم ليست حقاً حصرياً لأمة بعينها، بل هي استحقاق وجودي يتطلب وعياً بالنواميس التي تتحكم بهذا العالم، والشعور بالقهر (الحضاري والاجتماعي) إحساس نفسي مؤلم للغاية ولكن المحاولات الخاطئة لعلاجه قد تنتهي بتحطيم ذاتي وانتحار عدمي لا حدود له.
ومع أن التطرف ظاهرة موجودة لدى كل الطوائف الإسلامية بنسب متفاوتة إلا أن "التأزم الفكري" يبدو ملفتا في الطائفة السنية، فالفكر التقليدي الذي يقود الإسلام السني في هذا العصر يبدو عاجزاً عن تحقيق إنجازات "نوعية" تجعله امتداداً لأمجاد أسلافه العظام، ولم يستطع هذا الفكر استيعاب حقيقة أن التغير الذي أصاب حياة البشر حالياً ليس مجرد تغير مادي "وسائلي" وإنما هو انقلاب "مفاهيمي" شامل.
إصرار هذا الفكر على التماهي مع اجتهادات الأسلاف دون نقد للمسلمات أو مساءلة أو حتى تفحص للمنطلقات النظرية لتلك الآراء أضرت به أعظم الضرر، فانغلاق هذا الفكر على نفسه في عصر كهذا جعله يختنق بموروثاته، لأنه أهدر "البعد التاريخي" الذي يتحكم بعملية الجدل بين الماضي والحاضر، وهذا هو السبب في إصرار هذا الفكر على اتهام الواقع بالتآمر عليه، فهو لم يدرك بعد أن البشر في هذا الزمان قد انتقلوا -وإلى الأبد- من مرحلة المراهقة البشرية إلى مرحلة الرشد الإنساني الكامل.
غياب هذه الحقيقة عن الأفق الثقافي للفكر الذي يقود الإسلام السني حالياً جعله أشبه بمن "يجدع أنفه بظلفه" عناداً واستعلاء، ومع أن المجاميع العلمية لهذا الفكر تبذل جهوداً مضنية للتصالح مع العصر لكنها لم تساهم سوى في مزيد من الاغتراب، الفشل في السياسة والتنمية والتعليم والاقتصاد هو فشل حضاري في الأساس لكن جذوره ترتبط بفشل في التفكير، ناتج بدوره عن "انغلاق لاهوتي مؤسف" بلغة الدكتور هاشم صالح.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.