توقف الزمن لبضع ساعات من حولي، ألقي علي الخبر كصفعة يد خشنة، كطعنات متتالية من سكين غير حادة، كحمام بارد أيقظني على عجلة من غشاوة حياة بلا شطط، لم أستوعب قساوة الخبر ولم تكفني كل مياه الكون كي أبتلعه..
كيف لامرأة بقوتها أن تضعف أمام خبثه، كيف لامرأة بجمالها أن تدعه يلهو بخصال شعرها ويتسلل لجسدها ليفترسه ويغرس أظافره بهمجية داخل كبدها الهش، كيف استطاع أن يهزمها ويهزمنا جميعا معها؟
أمي لا تستسلم للتعب.. أمي لا يوهنها مرض.. أمي رائحة الورد والقرنفل العالقة في ملابسنا جميعا.. أمي صوت الحياة الذي يملأنا فكيف لي أن أبكيها؟ كيف أفسر عبث الحياة هذا؟ كيف ألفظ أنفاسي المثقلة بالخيبة والألم والضياع؟ أي مرض جبان هذا الذي اختار أمي كي يستعرض عضلاته، أي مرض جبان هذا الذي لم يكشف عن نفسه إلا بعد انتهاء مهمته التدميرية.
"لا وجود لحل" كانت كلمة الأطباء الأخيرة، وهل يزيح طبكم الهم الذي زرعه المرض في قلب أمي وفي قلوبنا هل يعيد طبكم ابتسامة أمي وحضورها الذي لا عوض عنه. لم يكن إيجاد الحلول همي في تلك اللحظة، كنت أريد فقط أن أستيقظ من بشاعة كابوس حول حياتنا إلى سباق ضد عقارب المرض؛ إلى صراع محسوم النتائج ضد وحش لا يصد. كل الحلول الترقيعية من أعشاب وأدوية و فواكه استوائية أضحت بالنسبة لي كذبة تقطر في أفواهنا شيئاً من الأمل لقلة حيلتنا، كنا ننظر إلى زهرتنا تذبل أمام أعيننا ولا حول لنا ولا قوة؛ أوصدوا كل الأبواب في وجهنا وتركونا نتلوى كطائر جريح لا مسعف له..
لم يطل هذا الوضع وغادرت أمي بابتسامة، غادرت بسلام ولم تسمح للمرض أن ينهكها أكثر وأن يغتالنا كل ليلة ألف مرة..
لن أقول إنني وجدت حلاً أجترعه كمسكن لكل ما خلفته هذه المرحلة في خلدي من آلام لكنني صنعت من ضعفي قوة تحميني، وضعت أمامي رحمة الله التي لا تعلو عليها رحمة، آمنت بقدري هذه المرة أكثر من كل مرة وعلمت أن حكمة الله أقوى من أن أبكي رحيل أمي صبحة وعشية. نحن زائرون في هذه الدنيا وسنرحل لا محال بدون ضجيج، نحن مصطفون في طابور النهاية دون علمنا ننتظر دورنا في اتجاه اللاعودة..
ربما عقولنا لا تزال غير قادرة على استيعاب فكرة بضخامة وقساوة الموت لكنه موجود في كل مكان يحيط بنا ويبحلق بأعينه في فريسته القادمة.
ليس هناك حل غير "الحمدالله" لجبر خواطرنا المكسورة ليس هناك حل غير الثقة بالله لتحفيزنا للمضي قدماً في حياة ما تنفك تخذلنا وتكسر ذرات الأمل الأخيرة فينا.. لا حل لنا سوى التضرع إلى رحمة الله حين يأبى كل شيء عن إيجاد حلول لمشكلتنا.
لا تجعلوا الموت يسرق أحبتكم ويسرق حتى أنفسكم منكم لا تدعوه ينتصر على حساب استسلامكم واجهوه بنفس مطمئنة مبتسمة إيمانها بخالقها يستصغر الموت في عينيها.. واجهوه وأخبروه أن الأحبة الذين رحلوا معه قابعون في قلوبنا وسنجعل من قوتنا فخراً لهم أينما كانوا…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.