أن تجعلك محادثة لم تدم أكثر من ستّين دقيقة تستجمع قواك وتضغط على زناد الإدرينالين عندك بشكل غير منتظر البتّة، هذا ما حدث معي صبيحة أحد الأيّام الفارطة حيث التقيت إحدى صديقاتي المُلهِمات..
ومضينا نتحدّث في الواقع المتأزّم وقد كنّا في قلب مقاطعة الأطباء الداخليين الأكبر منّا سنّا لاختيار التربّصات، في إطار تعبيرهم عن رفضهم لأن يكونوا آلات أو كائنات مُستعبدة داخل المستشفى الحكومي دون أدنى احترام أو سعي لإنماء مكتسباتهم العلميّة والمعرفيّة و للتعامل "الأبويّ" المتغطرس الذي تمارسه "سلطات" الإشراف معهم (وقريبا معنا) في شيء يقترب إلى اللامسؤوليّة أكثر منه إلى الجدّيّة ثمّ طال تفكيكنا بعد ذلك لما يعتلي هذا الواقع من أفق مغلق أو مفتوح..
ازدحمت بعد اللقاء قي ذهني خواطر كثيفة.. والأهمّ استطعت أن أشحن بطاريات الإقبال والتماسك لديّ في وقت تكثر فيه الضغوطات من كلّ جانب..
وعلى الطريق خلال العودة إلى البيت، حيث الأرض مزدانة باخضرار ما بعد المطر والسماء بغيماتها المتفرّقة في مساحة الزُّرقة الشاسعة لا تفارق مرأى العين، أخذت أتفكّر..
من قال إن العالم يتجاوزنا وإنّ الحياة أكبر منّا؟ من بنى في مخيلاتنا جدراناً تمنعنا نفسياً حتى من التجرّأ على فلاحة أرض نقف عليها؟ والأغرب أنّها ظاهرة لا تستشري بمثل هذا الشكل في غير بلداننا..
تحكمنا سلبيّة غير عاديّة في هذه الربوع فلا نتحرّك إلّا للضرورة القصوى ولا نبادر إلّا فيما نَدر ممّا يُضعف حظوظ تخطّف النجاح من المهد ويجعلنا خارج خطّ التّماس أصلاً.. لاهين لاعبين على هامش سير الحياة التي تضجّ و يعلو صرحها ويمتدّ ويتفجّر براكيناً في بلدان يعيش فيها الإنسان محقّقا بيديه إنسانيّته كاملة بدءاً من المحاولات والخطأ وحتّى مراحل الوصول والإبداع..
و كأنّ أمر الأرض التي نعيش فوقها لا يعنينا (أعني أرض الله الواسعة) وكأننا أشباح تستفيق، تأكل وتستهلك وتنام وتستجيب لما يُميتها فحسب!
القدرة على التقطّع من المحيط السّلبيّ، على انتهاره وتقزيم طائلته والحفاظ على استقلاليّة تفكيرنا وفعلنا، من أوكد ما نحتاج أن نتدرّب عليه ونتقنه حتّى نتمكّن لاحقاً من أن نصنع من الضّعف والوهن قوّة تضرب في الأرض..
ذلك الإحساس بامتلاك القدرة على الفعل ينقصنا وينادينا في استحياء لنرفع عنه المظلمة، لنذيب قضبان سجنه المركون داخلنا في ضآلة آثمة..
الإحساس بأنّك لست صفراً إضافياً على اليسار، بأن ما يهمّ هو رؤيتك للعالم وموقعتك لنفسك فيه لا غير، بأن لا مجال لتملي عليك أيّ جهة متنفذة دورك في الحياة أو أن تتدخل في كيفية تحرّكك وقضائك لساعات عمرك وبأنّ يومك هو من صنعك فعلاً أو تخاذلاً.. وتلك الثّقة المرتكزة في النّفس!
قد يقول لك مثل هذا الكلام مئة شخص.. لدرجة تجعلك قادراً على تحرير مقال في صدده انطلاقاً ممّا تسمع فقط ولكن شتّان بين ذلك والإيمان الحقيقيّ بأنّك قادر.. موضوعياً وعملياً قادر على أن تتجاوز محن التخلّف والتعنّت والتدهور القيمي المحيط لتصنع على الأرض منطقتك الخاصة التي تخضع لما تؤمن به من مبادئ .. أن لا تضع كلّ ذلك على صفحة المعطيات الرئيسية لديك، أن لا تلقي فائضاً من البال على السّلبيّ، أن لا تسمح لما لا يعنيك باحتلال مجال تفكيرك وأن تُبقي عينيك على ما تملك تغييره انطلاقاً من عتبة بيتك أو عملك أو فنّك.. أن تكون مستغرقاً في مشروع حيّ تعمل عليه..
ستكون البدايات متأرجحة ربّما وستتعثّر وتستريب وتترنّح مؤذناً بسقوط قريب، لكن الصبر على المسير قدماً والتمسك بإمكانية بل يقين الوصول هو ما يجعلك تصل لنقطة النهاية وتلتذّ بطعم الإنجاز وإن كان بسيطاً فهو أيضاً خطوة أَرتكَ رأي العين أنّك فعلاً قادر.. وهنا أستحضر مقطع فيديو شاهدته مؤخّرا يتحدث فيه مهندس مصري شاب (واسمه محمد مؤمن عبر برنامج "ممكن" على قناة "سي بي سي") عن إقدامه على رحلة قطع فيها الأميال ما بين القاهرة وكيب تاون (جنوب إفريقيا) برّا، وبكلفة لا تتجاوز الألف وثلاثمائة دولار، بكلّ الإقدام الذي يمكن أن يتحلّى به شابّ في مقتبل العمر يريد أن يعيش حياة حقيقيّة يكون هو الفاعل فيها وصاحب الإملاءات بنفسه..
By Viktor Hanacek via picjumbo
أهلكنا الانتظار السّلبيّ والذهول المتحجّر أمام ما يجري.. واستنزف أرواحنا وأعمارنا.. بل وأوغل في استعمارنا أمام استسلامنا الفاضح والمخزي حتّى أمام أنفسنا!
نحتاج أن نكتشف في لحظة يرنّ فيها ناقوس ما داخل أذهاننا أنّنا قادرون على طرد ما يمتصّ قوانا المحرّكة .. أنّ داخلنا محرّكات ذاتيّة الدّفع قائمة الذات لا يقف سيرها على تدخّل فلان أو رؤى علّان.. أنّ كلّ إنسان أيّا كانت متعلّقاته الاسميّة و"الحضاريّة" وأيّا كانت خلفيّاته وظروفه، يملك منذ ولادته القدرة على صنع الفارق، على خلق قيمة مُضافة تحمل بصمته الخاصّة التي لا تقلّ قيمة عن أيّ بصمة أخرى طارت ملامحها في الآفاق واشتهرت.. فقط يحتاج المرء أن ينكبّ على تغذية كيانه واستقاء ما يطوّره ويبلور شخصيّته ويركّز تجذّره الأصيل في واقعه وإن تشعّبت المشارب.. فيوغلَ برفق في تشذيب مقوّمات هويّته وفي التفنن في خلط مقاديرها المتعدّدة بقدر حاجته ومتطلباته..
في تونس، عندنا مثل يقول "عِزّ نفسك تصيبها".. وفيه أنّ من أوّل قواعد البناء هي أن تحتفظ بعزّة نفسك، بأن لا ترضى أن تكون تابعاً لأيّ كان.. وذلك في العمق، داخل غرفة القيادة حيث عليك أن تكون مؤمناً مقتنعاً لا فقط مصدّقاً مصفّقاً.. وهو ما سيوصلك لإصابة الهدف ولأن تصنع ومن ثمّة تترك أثراً ذا قيمة..
والغريب مع ذلك أنّي من جملة كل ما قرأت من حصص تاريخ خلال سنوات الدراسة الطويلة منذ الطفولة وإلى يومنا هذا، على اختلاف الحقبات الزمنية والأراضي الإقليميّة وغير الإقليميّة التي مشّطناها، لم تعلق بذهني بلا تحويرات أو غبار سوى جملة وكأنّها تختصر "قدرياً" ما عليّ أن أستبقي من بين كلّ التّفاصيل المتشابهة الزّائلة المتذبذبة: "حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها" وعلى ما أذكر كانت ضمن الحديث عن التيارات التحررية التي هزّت العالم في أعقاب الاستعمار؛ كنت عندها في سن الثالثة عشر تقريباً وكانت الأستاذة تملي علينا الدرس ونحن نكتب.. ما زلت أذكر صوتها وحدّة تعاملاتها وعدم تجاوبها الصارم مع أيّ نوع من أنواع التطوير في الدّرس ناهيك عن النقاش.. كانت تملي علينا الدرس كاملاً من كرّاس جاهز معدّ للغرض بما في ذلك عناوين الفقرات.. وعندما نطقت تلك الجملة رنّت أوتار داخليّة عندي ولكم استعذبت منطقها.. أحسست بمخزون الجمال الذي تحمله.. كان في تلك الجملة شيء من الإعجاز الذي اخترق جوّ الدّرس البليد وحفر الكلمات في الذاكرة مرة وإلى الأبد.. كما يخرج اللبن الخالص السّائغ من بين فرث ودم، حصَلتُ، وياله من رزق مدهش، من بين ركام "الرّداءة" بل من قلبها، على صيغة تختصر أحد أسباب سعادة الإنسان وتحقيقه لذاته على هذه "البسيطة"..
ومنذ تلك اللحظة، كثيراً ما صارت تعود الجملة لتطرق خاطري أمام مواقف مختلفة.. ومنها أنّنا لا نعي تماماً حقيقة أنّنا فعلاً نملك الحق في تقرير مصيرنا بأنفسنا على الصعيد الشخصي أوّلا قبل أن نصل إلى مُرتقى الجماعات والشعوب لاحقاً.. والمصير يبدأ بما نقدّم لأنفسنا عبر الحاضر..
بتلك الخطوة التي تقرّر أن تكفّ عن البكاء والنّدب والنّحيب.. وأن تخرج للفضاء المتاح، بذلك الاتصال الذي يفتح أبواب عمل ما، بذلك اللقاء الذي يُخرج منّا تبادلا للأفكار اللامعة، بتلك الأمسية التي أمضاها أحدنا في تكرار تجربة ما، بساعة من زمن مزّقت فيها إحدانا عشرات المسودّات لتصل لمشروع يليق بالعالم فيخرج إليه، بيوم انطلق من الفجر سخّره رياضيّ مبتدئ لتكرار محاولة تأدية رميةٍ على درجة عالية من التقنيات ولم يترك الملعب حتّى أتقنها مع نهاية اليوم، بقول لا أو بقول نعم وعدم الاكتفاء بهزّات الرّأس المستجيبة في عجز أو جهل، بالإقدام على رحلة "الألف" ميل -تنقص أو تزيد، براً، جواً أو بحراً، جنوباً أو شمالاً، ميدانياً أو وجدانياً- باسترجاع السيطرة واسترداد التحكّم في مصائرنا اليوميّة بسيطةِ التفصيل عظيمةِ الأثر.. عن وعي وعن مسؤوليّة وعن ثقة تامّة..
بالسعي لافتكاك مقود سير أيامنا.. وبتشرّب حقيقة أنّنا قادرون بلا مواربة بلا تملّص بلا توجّس بلا انهزاميّة أو تخاذل، مرّة وإلى الأبد!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.