نستكمل في هذا الجزء الثاني من المقال ما كنا بدأنا فيه من سرد نقاط أساسية لايمكن فهم الملف السلفي الجهادي وما تعلق به من تحولات دون استذكارها
-10-
الخط السلفي كان أحد أعمدة "الجهاد الأفغاني" وقد مثلته جهات وشخصيات أهمّها عبد الله عزام الذي كان من أوائل من نظر وشرّع لمسألة "الذبح" كإحدى وسائل القتال، وكرّس بوادر مقولة ضرورة اتخاذ قاعدة يُنطلقُ منها نحو جهاد عالمي وبدّل الأولويات من الجهاد في فلسطين إلى إقامة حكم إسلامي على رقعة من الأرض للانطلاق منها نحو فلسطين وغيرها وقدّر عزام أن أفغانستان تحمل خصائص وصفات في أرضها وشعبها تؤهلها لهذا الدور.
-11-
فكر عبد الله عزام وخطه مثل مصدر إلهام لأغلبية المقاتلين العرب الذين ساهموا في "الجهاد الأفغاني" ولما قام القتال بين الحزب الإسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار والجمعية الإسلامية بقيادة أحمد شاه مسعود، وكان القتال بينهما أفغانيا بامتياز يتعلق بكيفية حكم وإدارة البلاد في مرحلة ما بعد نجيب الله، مال المقاتلون العرب نحو منظورهم الأممي الذي اعتبروا فيه أن أفغانستان ليست نهاية المطاف وأن جهاد الروس لم يكن يستهدف فقط إخراجهم من بلاد الأفغان بقدرما كان بداية لمرحلة جديدة من الجهاد العالمي، فكثيرا ما كانوا يسوقون الأمثلة عن المقاتلين و"الشهداء" من مختلف الجنسيات بما فيها العربية والغربية دليلا على "عالمية الجهاد".
-12-
الدول التي دعمت "الجهاد الأفغاني" سواء العربية أم الغربيّة منها وخاصة أمريكا، كانت تتابع عن كثب حالة "الجهاد الأفغاني" وكونت صورة حول خطوطه وتقاطعاته، وهي تعلم جيّدا أن جزءا لا يستهان به من أحزاب "المجاهدين" كانت تسعى للتوسع بخبرتها القتالية الجبارة نحو جبهات جديدة، وكانت واشنطن تعرف أن حبس "المارد الجهادي" داخل "القمقم الأفغاني" عمليّة عسيرة صعبة، خاصّة وقد اندلعت حرب حقيقيّة طاحنة بين جهاديَن أفغانيّين أحدُهما "وطني" والثاني "معولم".
-13-
تصفية عبد الله عزام كانت تعبيرا مبكرا عن وعي لدى جهات عدة بالخطر الذي ينطوي عليه تطور هذا الرجل الظاهرة، واغتياله دلّ على أن من دعم "الجهاد الأفغاني" لم يعطه صكا على بياض وإنما سانده ضمن مهمّات محدّدة ووفق مواصفات بينها الإسهام في تصفية الاتحاد السوفياتي والتعجيل بسقوطه وترجيح الكفة في الحرب الباردة لفائدة غيره.
-15-
فكرة تنظيم القاعدة في جوهرها كانت تطبيقا لفكر عبد الله عزام، وقد استفادت من الدعم الباكستاني لحركة طالبان التي ولدت لإنهاء مرحلة "الجهاد الأفغاني" الكلاسيكي لفائدة طرف جديد كان أقرب في بدايته لإسلام أباد التي لها تاريخ إشكالي في ترتيب مصالحها القومية مع الجارة أفغانستان وهو ما ظهر لاحقا بوضوح في مناكفات لم تنته مع حكومة حامد كرزاي ومن خلفه من فريق "تحالف الشمال" الذي يحكم كابل إلى اليوم.
-16-
"السلفية الجهادية" وبحكم احترازاتها على المفهوم الحزبي للعمل الإسلامي، سرعان ما تحولت وبوطأة أيضا من الملاحقات الأمنية وظروف القتال على أكثر من جبهة إلى مرجعية عامة، وهو ما يفسر انتشارها السريع وتوالد عناوين جديدة في سياقها وظهور بوادر للاختراق والانشقاقات داخلها، تلك التي بلغت ذروتها الحالية بظهور تنظيم الدولة على حساب تنظيم القاعدة بزعامة الظواهري الذي خلف أسامة بن لادن بعد تصفيته.
-17-
الدول العربية التي سبق وأن دعمت "الجهاد الأفغاني" وجدت نفسها أمام مشكلة ما عرف بالأفغان العائدين، وهي التي تخوض معارك سياسية وأمنية ضد تعبيرات أخرى للحركة الإسلامية، لم تكن تملك استراتيجية واضحة وشاملة في التعاطي مع السلفية الجهادية، لذلك تجدها خاضت موجات عنف وقمع ضارية ضد أنواع من السلفيين فيما حاولت استنبات أو احتواء سلفيات أخرى توصف بالعلمية، دون أن تنتبه فيما يبدو إلى المنظور الديني المتشدد المشترك بين الإثنين رغم افتراقهما في قضايا من قبيل تكفير الحاكم والمجتمع والخروج عليهما.. هذا التخبط ظهر جليا في تشجيع ما عرف بـــ"المراجعات" في كل من مصر مبارك وليبيا القذافي، وهي المراجعات التي عبرت عن مصلحة الحاكم، أكثر مما قادت إلى حوار عميق ومفتوح يقود إلى تحول تاريخي في تفكيك الظاهرة السلفية وإدماج أتباعها في دورة تنمية حقيقية وعادلة.
-18-
بعض الدول العربية وهنا أخطر ما في الموضوع، اتخذت من موضوع الإرهاب والحرب عليه، ورقة لتكريس وجودها داخليا وخارجيا في ظل معرفتها ومعرفة الجميع بافتقاد النظم الحاكمة للشرعية القائمة على تفويض شعبي من خلال صناديق الاقتراع وآليات التداول السلمي على السلطة، ولنا في هذا الصدد مثال فاقع وصادم وهو تعامل النظامين البعثيين في العراق وسوريا مع "السلفية الجهادية".. فكل من تابع غزو العراق يذكر أن نظام صدام قام بخطوات لأسلمة نظام الحكم طبعا وفق رؤية صدام حسين، واستقدم مقاتلين عربا عرضهم التلفزيون العراقي وقتها وكان واضحا من خطابهم ولباسهم وملامحهم أنهم مقاتلون سلفيون توافدوا على البلاد لصد "الهجوم الصليبي الكافر" على بلاد الرافدين.
في وقت لاحق تواترت الأدلة على استعمال النظام السوري للورقة السلفية الجهادية من خلال تحويل سوريا إلى بلد معبر للمقاتلين السلفيين إلى العراق لاستنزاف القوات الأمريكية هناك في ظل قناعة من نظام الأسد بأن حكمه سيكون التالي على قائمة التدخلات العسكرية الميدانية في المنطقة. ولي في هذا الصدد دليلان على الأقل أولهما معركة دبلوماسية حامية الوطيس بين رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والنظام السوري بلغت حد تلويح المالكي بتقديم شكوى لدى الأمم المتحدة يتهم فيها نظام الأسد بإيواء وتدريب وتسليح مقاتلين سلفيين كانوا يدخلون الأراضي العراقية عبر الحدود مع سوريا، وليس للمالكي أي مصلحة في التصعيد مع نظام "حليف" طالما احتضن المعارضة العراقية ضد صدام حسين في سياق المناكفات التاريخية المعروفة بين النظامين البعثيين في دمشق وبغداد. أما الدليل الثاني فمحاكمات قام بها القضاء التونسي لملفات بلغت المئات لتونسيين التحقوا بالقتال في العراق ضد الأمريكان والقوات العراقية، كان جميعهم قد مرّ عبر الخط السّوري وجاء في اعترافاتهم كلام مستفيض عن قيادات أمنيّة سوريّة أشرفت على استقبالهم وتدريبهم وإرسالهم إلى العراق.
-19-
الالتقاء والصدام بين "السلفية الجهادية" والحكومات الأمريكية والأوروبية المتعاقبة، تمّ على خلفية علاقات "براغماتية" متقلبة بين الجانبين، ذلك وعلى ضوء الشهادة التي قدمتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون أمام لجنة استماع تابعة للكونجرس الأمريكي، فإن الولايات المتحدة أعطت الضوء الأخضر إن لم تكن قد ساهمت فعليا في ظهور وبناء الظاهرة "السلفيةالجهادية"، على رجاء بترويضها في اتجاهات معينة كأن تستعمل ضد روسيا وإيران وصربيا، إلا أن هذا المنظور أبان عن محدوديته لاحقا، فبعد التنسيق الميداني في أفغانستان زمن القتال ضد الروس، وبعد الدعم للــ"مقاتلين الشيشان" في وجه الروس باعتبارهم مقاتلين "من أجل الحرية"، وبعد الدعم الجوي الواضح من قبل "الناتو" للــــ"مجاهدين" بما فيهم العرب في البوسنة ضد القوات الصربية، جاء الدور على مرحلة من الصراع طالت السعودية والمصالح الأمريكية وهو ما كان تعبيرا متأخرا عن اختلاف عميق في فهم "الجهاد" وجغرافيته، ذلك أنه بالقطع لم يكن للسعودية ولا للأمريكيين أن يتقبلوا مفهوما وتطبيقات أممية مفتوحة لمقولة الجهاد، وهم الذين سمحوا بها في جغرافيات وأزمنة محددة ضد عدو مشترك، فالجهاد ما زكته الرياض وواشنطن، وليس أكثر من ذلك.
-20-
"السلفية الجهادية" عادت لتزدهر في ظل "تطييف" للبيئة العربية الإسلامية، ذلك أن عدوا مشتركا جديدا لاح في الصورة لأطراف عدة مصلحة موضوعية مشتركة في إلحاق الهزيمة به. ما وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليسا رايس بـــ"الشرق الأوسط الجديد" وزادته توضيحا في مستوى آليات إيجاده بالحديث عن "الفوضى الخلاقة" وقعت ترجمته عمليا في صراعات طائفية طاحنة اندلعت في أكثر من جبهة لعلّ أهمّها العراق وسوريا ولبنان، وفي ظل هذه الحرب تراجعت إسرائيل بوصفها العدوّ الأوّل للعرب والمسلمين، لتصبح التصفية الطائفية بين السنة والشيعة أولويّة لا تقبل التأجيل خاصة لدى تنظيمات ذات "مرجعية سلفية" يبرز "تنظيم الدولة الإسلامية" بوصفه التعبيرة الأكثر تشددا في هذا السياق.
وإذا كانت هناك جبهات تعكس عمق الخلافات بين "السلفية الجهادية" ونظم عربية وغربية، فإن أخرى كما في اليمن تترجم وبوضح تحالفا ميدانيا بين الطرفين، وهو الأمر الذي يعبر عن "تدافع" بين الجانبين ومخاض في رسم قواعد اللعبة التي تحكم العلاقة بينهما، ويشير في الآن إلى أن تلك العلاقة لم تأخذ صورتها النهائية بعد.
-21-
تلوح إسرائيل في المنظور "السلفي الجهادي" قضية مؤجلة، فالسلفيون الجهاديون الذين يعادون بصرامة مذهب الإرجاء، يعتنقونه ضمنيا فيما يهمّ مستقبل علاقتهم بالكيان الصهيوني، وللقوم في ذلك رؤية تقول إن إسقاط "النظم العميلة" مقدّمة لإنهاء وجود إسرائيل.. غير أن المفارقة التي صنعها هذا الموقف والأداء هو أن العمليات الدموية التي تشنها التنظيمات "السلفية الجهادية" ضد أهداف رسمية وشعبية عربية وإسلامية، استثنت تماما أي هدف إسرئيلي، بل إن أدبيات تنظيم الدولة الإسلامية الفكرية أو الشرعية، لم تفسح مساحة لإسرائيل تعكس اهتماما كافيا بالمشكلة التي خلقها وجود هذا الكيان الغاصب في بقعة من الأرض في قيمة فلسطين وبحجم المأساة التي فرضت على شعبها.
-22-
الحديث عن "عمالة" "السلفية الجهادية" لدوائر استخباراتية عربية وغربية، يبقى غائما يحتاج لكثير من الدقة والتفاصيل التي من بينها ما سبق وسردناه في النقاط آنفة الذكر، غير أن التاريخ في عمومه يخبرنا أنه توجد منزلة وسطى بين اختلاق ظاهرة والاستفادة منها، فالسماح بنشوء ظاهرة واشتداد عودها قد يكون بغض الطرف عنها والسماح لها بخطوط الإمداد، في سبيل الاستفادة منها في معركة تصفية أو إنهاك أو استنزاف لعدوّ مشترك، وما قد يجعل جهات ما تطمئن إلى ظاهرة "سلفية جهادية" على خطورتها إنما هو ركونها إلى ما تملكه من قدرة على مراقبة الظاهرة واختراقها من خلال التعامل مع قيادات فيها إما مباشرة أو عبر وسائط، في ظل تسليم بتأجيل أيّ صراع مع وجود الخصم المشترك. هذه الصفقات التي تتمّ بعيدا عن الأضواء وبصيغ غير تقليدية ومن خلال واجهات تلبس أقنعة سميكة، لا يعرف بها "السلفيون الجهاديون القاعديون" الذين يلتحقون بالقتال انطلاقا من عاطفة جيّاشة قادمين من خلفيات اجتماعية ضاغطة وممتطين في كثير من الأحيان لوعي ثقافي وعلمي سطحي وبسيط للغاية، يجعل منهم وقودا لحروب لا يدركون خفاياها، وحطبا لمحارق يحسبون أنهم يحسنون فيها صنعا.
-23-
يبقى تفسير ظاهرة "السلفية الجهادية" وتبرير كثير من ممارساتها الدامية بما يأتيه خصومها الحاليون، من قبيل أن عنف "داعش" رد فعل على وحشية النظام السوري، أو ردّ على طائفية النظام الإيراني أو ناتج طبيعي لتاريخ طويل من قمع "أجهزة الأمن العربية"..يبقى هذا التفسير-التبرير قاصرا للغاية، فمن يقرأ ولو بقدر أدبيات تلك التنظيمات يجد أنها حسمت أساليبها ومن منطلق "شرعي فكري" جوهري في اتجاه العنف والإكراه للتمكين لمشروعها الشمولي الذي يشمل الدولة كما المجتمع، والذي لا يعترف بحدود جغرافية ولا بمفاهيم حقوق الإنسان ولا التعددية ولا الحريات بأنواعها.. بمعنى حتى لو لم تقم ثورة إيرانية ولم يكن هناك حزب الله ولم يكن هناك إخوان مسلمون ولا نظام سوري ولاحماه، حتى لو لم يكن كل ذلك فالسلفية الجهادية لن تتردد في تصفية من ينازعها طموحها في السيطرة على البلاد والعباد وفرض منظورها للإسلام ولن تسمح بقيام مذهب معارض سواء كان شيعيا أو سنيا، فضلا عن تيارات فكرية وسياسية أو جهات بحثية أو حقوقية أو إنسانية بتعبيراتها المختلفة..تناصبها الإختلاف فضلا عن المعارضة والخصومة.
هؤلاء شعارهم نحن ولا وأحد.. وهذا يشمل أعداءهم التاريخيين.. وأولئك الذين تحالفوا معهم ودعموهم في السرّ أو العلن.. ذات حدث أو منعطف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.