دائما طريق العودة مليء بالشجن فهو يحمل التفاصيل والرؤى والتأملات اللا نهائية، من الإسكندرية إلى منطقتي التي أسكن فيها بمصر كأني أرحل في عوالم من مجتمع مختلف أستعيد من خلاله ذكريات فترة مضت ولكنها بقيت محفورة على جدار الذكرى الجميلة لدي بل والأجمل في حياتي، في قاعة المطار بدأت مرحلة استعادة تلك الذاكرة والسير على جدرانها الوعرة، تساؤل قفز إلى ذهني مرة واحدة وأنا أفتش عن حقائبي على ذلك السير المتحرك للحقائب لا أعرف إجابته هل حقا الحكومة المصرية تدرك معنى أن المطار هو البوابة لكيان حضاري مهم يحمل بين ثناياه تاريخا طويلا هي مصر؟ أم أن فكرة المطار هي في الأساس مضمون وتعريف لذلك الحيز المكاني الذي تهبط فيه الطائرات فقط وتلقي بالمسافرين ويقابل فيه المحبون والغائبون ذويهم الذين تحملوا رفع عصاهم وترك الوطن من أجل لقمة العيش التي باتت صعبة المنال جدا في بلاد الخير الوفير وتلك الجنة المفقودة. اضطرتني الظروف أن أحتاج لسلة مهملات بعد فتح حقائبي فتحدثت مع المسؤول هناك فلم أجد سوى أحدهم والذي بادرني سريعا حين سألته عن سلة المهملات سوى أن أشار لي بيده في صمت إلى مكان الحمام الذي وجدته مهملا جدا إلى أبعد الحدود فلا أعرف هل التبس لديه مفهوم سلة المهملات بمفهوم الحمام لا أعرف! ولكن في الحقيقة لم يكن يكذب فبالمعنى المجازي هما فعلا معنى واحد ، انتهت إجراءاتي وما إن خرجت من باب المطار حتى كأني ولدت من جديد بالمعنى الكامل، هي ولادة متعثرة جدا ولكنها تبقى لحظة انسلاخ للروح المجهدة من الترحال وبدأت الفرصة للمشي في شوارع مصر واستقبال نسائمها التي زكمت أنفي بروائح لم تكن ياسمينا ولا وردا ولا ذلك الهواء النقي الذي لحقته حين استقر بي المقام في مصر عام 2003 بل وحتى 2012 بل وجدت روائح غير زكية ومنفرة جدا في المنطقة التي تلي المطار وأنا عائد إلى محافظة الشرقية ولكن بقيت البلاد كما هي بملامح الشقاء والتعب البادية في وجوه الناس التي حارت مع السبب في كل التراجع الذي نحن فيه، هل نحن السبب في نكبة مصر وتراجعها؟ أم أن مصر لم يعد يجدي معها أي سبب من أسباب التقدم التي تحاول كل حكومة أن تقدمها للشعب المتعطش لقطرات الخير النادرة والتي لم تعد تسقط بل ولم تعد حتى أجواؤها الباعثة للخير تُستدعى لسماء البلاد التي لم تعد تلك الصافية أو حتى بصيص الصفاء الذي تركته، العجيب في شوارع مصر أنها رغم كارنفالية السير والحركة فيها بل والأقرب إلى العشوائية المنظمة لخليط من البسطاء فإنه يحتاج كل مصري حقيقة إلى معرفة تاريخ الطرق وكيف أنشأت على طول البلاد وعرضها لأن التاريخ سيقول لنا كيف بدأت الحكاية فالطرق هي الشرايين التي تنتشر في جسد الوطن الممتد وكلما كانت الشرايين متدفقة وتمتلك المرونة والسيولة والتدفق لحق ذلك تطور في كل القطاعات الأخرى، استمرت الرحلة واقتربت الساعات الأولى من تباشير الفجر، حقا إن الفجر في مصر مختلف بشكل كبير فيه عن كل بلاد العالم الإسلامي وروحانياته عالية جدا فتلك الأضواء الخضراء التي تكتسي بها المساجد القروية تضفي على هذا المشهد الروحاني عبقا عميقا وزخما من الشفافية لا يمتلكه حتى شيخ طريقة بلغة أهل الصوفية فتشعر من خلاله بتعاشق جميل متناغم بين الصوفية في معناها الزهدي المتمركز حول ترك الحياة والعيش على هامشها وبين السلفية الملتزمة السّوية من خلال تعاليم مستقرة من أبد الدين وناهله من معينه العذب، اخترقت السيارة لهذه الأجواء الإيمانية التي حملتني إلى معان ضدية للمشهد الآني وطفقت أتساءل لماذا بعض المصريين رحلت سماحتهم إلى الأبد وهم أهل السماحة والغفران؟ لم نعد نتسامح فيما بيننا بل وننتهز الفرص للانتقام بأي وسيلة ،بقي التساؤل عالقا وبقي المشهد الموحي لي ببقايا روح في جسد يحاول الهروب من عقابية سيزيف وضمائرية هابيل الملحّة في رحلة الحياة المستمرة والتي من الواضح أنها ستليها مفاجآت تزيد الرحلة إثارة ومتعة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.