يصطدم حاملو الشهادات العليا في الجزائر بواقع معقد، بعد سنوات طوال من التحصيل العلمي بمختلف الجامعات والمعاهد والمدارس العليا، وذلك بسبب انعدام فرص العمل.
وازدادت الصورة قتامةً بفعل انهيار أسعار البترول مؤخراً، واتخاذ الحكومة لإجراءات تقشفية، بلغ أثرها سلك التوظيف، حيث تم تجميد عمليات فتح فرص عمل جديدة، خاصة على مستوى الشركات والمرافق الإدارية العامة.
الوزير الأول عبد المالك سلال أكد في تعليمات وجهت إلى مختلف مسؤولي قطاع التوظيف بداية شهر يوليو/تموز الماضي، مراجعة عملية التوظيف بالإدارات العمومية وفقاً للمعطيات الاقتصادية الراهنة، وطالب بتجميد التوظيف ببعض القطاعات وجعله محدوداً جداً بقطاعات أخرى.
من الجامعة إلى تسيير المراحيض
عمر، الذي فضل عدم ذكر اسمه كاملاً، متخرج من معهد التاريخ من جامعة "فرحات عباس" بسطيف بشهادة الليسانس، وأكمل دراسته لنيل شهادة الماجستير من جامعة "الحاج لخضر بباتنة"، قبل أن يستقر به الحال بحديقة للألعاب بمسقط رأسه –سطيف- مسيراً لمرحاض عمومي.
عمر يعتبر نفسه محظوظاً مقارنة بزملائه الذين ما زلوا في تعداد العاطلين عن العمل، خاصة وأن امتلاك مرحاض عمومي في حديقة للألعاب أصبح في الجزائر لا يملكه إلا ذو حظ عظيم.
وعن مصير شهادته الجامعية قال "شاركت في عدة مسابقات توظيف، ولم يسعفني الحظ، لأنه من غير المعقول أن يتنافس أكثر من ألف مترشح على منصب واحد، كما كنت أحوز على عقد عمل في إطار ما قبل التشغيل، لكن سرعان من انتهى".
قبل بضعة سنوات تناقلت وسائل الإعلام المحلية في الجزائر، عزم الحكومة منح خريجي الجامعات الراغبين في العمل تصاريح لتسيير مراحيض عمومية ومواقف للسيارات بمختلف المدن الكبرى.
في ذلك الوقت يقول عمر "كنت في الجامعة، وقدنا احتجاجات كبيرة، معتبرين القرار إهانة للعلم والعلماء، قبل أن تكذب الحكومة كل ما جاء في الصحافة المحلية.
يقول عمر "اليوم وبعد التخرج من الجامعة والاصطدام بالواقع تبين أن الحصول على تراخيص لتسيير المراحيض أصعب من الوظيفة بحد ذاتها".
من علم الاجتماع إلى تسيير موقف للسيارات
التقينا في الحديقة الوطنية "أيما قورايا" بولاية بجاية شرق الجزائر، بالشاب ياسين بوجلادن، وهو يزاحم السيارات صباحاً لركنها بطريقة جيدة، واستغلال المساحة لتوفير مداخيل إضافية.
ياسين حاصل على شهادة الليسانس في علم الاجتماع من جامعة بن عكنون بالجزائر العاصمة، وشارك مرات عديدة في مسابقات التوظيف، خاصة في سلك التعليم، لكن مصيره كان تسيير موقف السيارات.
وعلى عكس عمر الذي يعتبر نفسه محظوظاً، فياسين لا يزال يحلم بمنصب عمل بإحدى الإدارات أو الشركات، لأنه مل من الشجارات اليومية مع أصحاب السيارات، وفوق ذلك فإن إيجار الموقف يتجدد كل سنة، "ومن الممكن جدا أن يفوز غيري بتسيير الموقف السنة المقبلة".
80 ألف متخرج سنوياً
تؤكد أرقام رسمية عن وزارة التعليم العالي، أن الجامعات الجزائرية تخرج سنوياً ما معدله 80 ألف طالب وطالبة من مختلف التخصصات.
ويرى البرلماني الدكتور "نعمان لعور" من كتلة الجزائر الخضراء، أن المشكلة في التعليم العالي بالجزائر، تبدأ من شهادة البكالوريا، فقد "باتت هذه الشهادة متاحة لكل من هب ودب"، وبالتالي "أصبحت جامعاتنا مكتظة عن آخرها دون مراعاة فترة ما بعد التخرج"، على حد تعبيره.
فنصف المتخرجين من المعاهد والكليات سنوياً يعيشون فترة طويلة في رحلة البحث عن منصب شغل، وهو حلم يصعب تحقيقه أمام الاستراتيجية المتباطئة في التوظيف.
الطاهر ميسوم برلماني من حزب التجمع الجزائري يعتبر أن الإشكال في الجزائر هو الأرقام، بحيث يتغنى الجميع بتضخيمها، بما فيها أرقام الجامعات وخريجيها.
قنبلة موقوتة
الطريقة التي تقابل بها الحكومة العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات في نظر البرلماني الطاهر ميسوم، بمثابة القنبلة الموقوتة التي تهدد الجزائر بانفجار اجتماعي وشيك.
فعقود العمل في إطار ما قبل التشغيل، وإدماج حاملي الشهادات، وذر الغبار في أعين حاملي الشهادات من خلال منحهم قروضاً بنكية، كلها صيغ توظيف قد تنقلب على الدولة بالسلب.
الإعلامي من جريدة وقت الجزائر سفيان خرفي انتقد تركيز التعليم العالي على التكوين في شق الإدارة والتعليم فحسب، بحيث إن هناك مفارقة عجيبة بين ما يتم تكوينه في الجامعات وسوق العمل.
وسجل المتحدث عجزاً كبيراً في اليد العاملة في مجالات البناء، والتعمير، والأشغال العمومية والري، لكن الجامعات الجزائرية تركز على التخصصات التي تعرف تشبعاً في سوق العمل وهو ما يعاب في التعليم العالي في الجزائر.
ويرى الإعلامي سفيان خرفي أن الحديث عن تسيير المراحيض العمومية ومواقف السيارات من قبل حاملي الشهادات إهانة بأتم معنى الكلمة، رغم أن الكثيرين من هؤلاء وجدوا أنفسهم مرغمين على امتهان ذلك.
وأضاف: "أعرف أشخاصاً يحملون شهادات عليا ويسيرون مراحيض عمومية، ولا يجدون حرجاً في ذلك، بل هم مرتاحون للعائدات التي يحصلونها يومياً والتي تبلغ أحياناً ضعف ما يتقاضاه الموظف بالإدارة أو التعليم".