بعد أسبوعين من هجمات الثالث عشر من نوفمبر هنا في باريس، بدأ العديد من التذكارات الموضوعة حول النصب التذكارية في ساحة الجمهورية بالانحلال، بلّل المطر اللافتات المكتوبة بخط اليد، ذوت الشموع وسقطت تويجاتُ الزهور.
على قاعدة التمثال البرونزي الذي يصل ارتفاعه إلى 31 قدماً، تمثال "ماريان" التي تجسد الجمهورية الفرنسية، توجد لافتات أقدم كُتب عليها "كلنا شارلي"، وهي من بقايا المظاهر التضامنية بُعيد أحداث يناير الماضي حين هاجم متطرفون إسلاميون الصحيفة الأسبوعية الساخرة، شارلي إيبدو.
لكن الهجمات التي وقعت قبل أسبوعين كانت مختلفة؛ قتلٌ عشوائي لمائة وثلاثين شخصاً في حفلة، خارجَ مباراة كرة قدم وأمام مقاهٍ ونوادٍ. وبينما أغرقت السلطاتُ الشوارع برجال الشرطة والجنود بعد الهجوم لطمأنة الناس، إلا أنهم أقل ظهوراً الآن، عدا بعض الدوريات غير المنتظمة التي تجول مناطق تجمع السياح ومراكز النقل. لا زال حرّاسُ بعض المتاجر يفتشون حقائب الزبائن ويطلبون منهم فتح معاطفهم، لكن الكثير من تلك الصرامة بدأ بالتلاشي أيضاً.
ليس الهجوم الأخير
لكن باريس التي أحيت ذكرى قتلى الجمعة باحتفال مهيب، بقيت مدينةً مصدومة. شارع الشانزيليزيه بأضواء عيد الميلاد البراقة، ومحل كارتيير الذي يبدو كهدية عملاقة بشريط الأضواء الحمراء اللامعة التي تزينه، فارغان بشكل غير معتاد. ألغى السياح رحلاتهم وأهل المدينة سارعوا إلى منازلهم، بعيداً عن هدفٍ آخر محتمل.
باريس تتقبّل ببطء فكرةَ أن الهجوم الذي نفذه أنصار "الدولة الإسلامية"، ومعظمهم كانوا فرنسيي المولد، قد لا يكون هجوماً أخيراً.
بشرى فاغنر تمتلك هي وزوجها كُشكين في شارع "مارشيه ديزان فان روج" قُربَ مسرح باتاكلان الذي تم استهدافه. بشرى التي ولدت في الدار البيضاء لكنها تعيش في فرنسا منذ أكثر من عشرين عاماً قالت: "كلنا في حِداد. لقد أصبح الأمر جزءاً من حياتنا اليومية نتعايش معه الآن"، ثم أضافت أن هجوماً آخر قد يقع "في أي مكان وأي وقت"، بحسب تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز.
الباريسيون يعودون لطبيعتهم
كان برونو دي فريا البالغ من العمر ثلاثين عاماً في حانة "لو كاريون" مع أصدقائه حين بدأ المهاجمون بإطلاق النار، ولكنه استطاع الهرب عبر المطبخ. قال برونو: "الجميع ينصحني بزيارة طبيب نفسي، لكني لا أملك الوقت لذلك. أشعر بما حدث عميقاً هنا"، وأشار إلى صدره مضيفاً: "تحضرني ذكرياته بشكل خاطف".
يتابع السيد دي فريا قائلاً: "الناس خائفون، وهذا يُشعرني بالقلق على المدينة". دي فريا بائعُ زهور يقول أنه "كان يبيع أطناناً من الورود البيضاء لأولئك الذين يودّون إحياء ذكرى قتلى مسرح باتاكلان بوضع زهورٍ عند قدمي تمثال ماريان، بدأنا الآن نرى المزيد والمزيد من الناس يشترون الزهور ليمنحوها كهدايا. هذا أمرٌ جيد، إنه يعني أن الباريسيين يعودون لطبيعتهم. أظن أننا جميعاً نريد تجاوز المحنة".
كانت امرأة عجوز تطوف حول تمثال ماريان، يربكها حمْلُ مظلتها وحقيبتها. أحضرت شمعة لتكريم القتلى، لكن الجو كان رطباً للغاية ذاك اليوم، "لذا ستعود لاحقاً"، حسب ما قالت.
شرحت السيدة: "أتيتُ أيضاً لتكريم ضحايا الحرب العالمية الثانية، فضحايا الهولوكوست لا يختلفون عن هؤلاء، كلهم ضحايا لنفس النوع من الكراهية". قالت السيدة أن اسمها فرانس كوهين وأنها تبلغ الثامنة والسبعين من العمر، تم ترحيل والدها اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تجتمع مع عائلتها مجدداً حتى انتهت الحرب.
مدينة الصبر مع الشدائد
الهجوم الأخير يذكِّر بالتاريخ الدموي لباريس؛ الثورة، الكومونة، الاحتلال الألماني والقصف خلال حرب الجزائر وبعدها. قد تكون باريس بالنسبة للكثيرين حُلمَ الحياة البرجوازية الحلوة، حيث الجمال الأنيق والطعام الجيد، لكنها أيضاً مدينةٌ لديها تجربة طويلة مع الصبر على الشدائد.
توجد باريسٌ أخرى أيضاً. باريس الفقراء، باريس الضواحي المزدحمة بالمهاجرين، حيث يعيش الكثيرون من المسلمين والزنوج. ضاحيةُ "كليشي سو بوا" حيث أطلق مقتلُ مراهقين على يد الشرطة أعمالَ شغب اجتاحت كل فرنسا قبل عشر سنوات- تبقى واحدةً من أفقر المناطق في فرنسا، حيث يبلغ معدل البطالة حوالي 40% وأعمار نصف السكان أقل من 25 سنة.
الضاحية التي لا تبعد عن مركز باريس أكثر من عشرة أميال لا تزال محرومةً من طريق واسع أو محطة نقل كبرى رغم مرور عقد على وعود الحكومة. خلال الأشهر العشرة التي تلت الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو، وبعد أن وصف رئيس الوزراء الفرنسي حينها مانويل فال الوضعَ في "كليشي" وأماكن أخرى بـ"كيانات تفرقة عنصرية عرقية واجتماعية"، قامت بعض المشاريع الجديدة في الضاحية، إذ يتم بناء خط ترام يربط بين "كليشي" وخط قطار الضواحي الرئيسي في "أولنيه سو بوا"، وسيتم وضعه في الخدمة بحلول شتاء عام 2018، حسب عمدة الضاحية، أوليفييه كلاين. كما ظهرت معالم بعض التطوير، فقد أُلغيت مشاريعُ الإسكان القديمة واستُبدلت بأخرى جديدة. ويقول مهاجرٌ مسنٌّ جزائري الأصل رفض الكشف عن اسمه أن "الأمن أصبح أفضل أيضاً، فالشرطة كثَّفت من تواجدها وهي تقوم بجولات أكثر في الحي".
ازدادت كثافة تواجد الشرطة في كليشي خلال الأسبوعين الأخيرين، مثلما ازداد عدد الدوريات ونقاط التفتيش العشوائية التي تتفقد الأوراق الثبوتية للسكان. قال المهاجر الروماني الأصل والذي يعيش في فرنسا منذ عشر سنوات، مادالين سيلاغي (22 عاماً)، "إننا نتعرض للتفتيش في كل مكان الآن. في المحطات والشوارع، وخاصةً الشباب".
يضيف سيلاغي: "باريس خائفة أكثر. فالإرهابيون لن يهاجموا منطقتنا أبداً. إنهم يبحثون عن الفرنسيين، وهنا لا يوجد الكثير منهم مثلما هو الحال في باريس. هنا يوجد العرب والزنوج".
المهاجرون مرفوضون
لا شك أن الكثيرين من الناس هنا ولدوا في فرنسا، لكنهم لا يشعرون بأنهم "فرنسيون" بالطريقة نفسها التي يشعر بها الفرنسيون البيض الكاثوليك. الناس هنا يشعرون أنهم "مرفوضون". يقول أسامة عريمشي (37 عاماً): "الوضع أسوأ مما كان عليه بعد الهجوم على شارلي إيبدو، لأن الهجمات الأخيرة أعطت صورةً سيئة عن الدين، صورةً زائفة. والآن في باريس، ينظر إلينا الناس بارتياب في المحلات وفي المترو".
أما كبرا يقيسي (27 عاماً) الذي يعمل في مقهى "لي برويير" في مركز ضاحية كليشي فيقول أن "الشباب خائفون من الذهاب إلى باريس". يقيسي، الذي ولد في فرنسا لكن والدته مغربية، يضيف: "نشعر هنا أننا في بيتنا، نشعر بأمانٍ أكثر هنا لأنه إن حدث أي شيء فسيكون هناك، في باريس. قد تكون الضواحي فقيرة، لكن ما أحبه فيها هو الاحترام الذي يُظهره الناس لبعضهم البعض والمساعدة التي يقدمها أحدهم للآخر. هذا شيء لا نراه في باريس".
خارج مقهىً مجاور سُمِّي مقهى "بني زناسن أنجاد" تيمناً باسم سلسلة جبالٍ في المغرب، تتسكع مجموعة من الشباب الذين يرتدون ملابس رياضية سوداء ويدخنون الماريجوانا. حين سألنا مهدي (21 عاماً)- ولد أيضاً في فرنسا وينحدر من أبوين مغربيين- عن هجمات باريس، قال: "إنها مؤامرة صهيونية"، وحين سألناه عن حيثيات رأيه أجاب: "لقد رأيت مقاطع فيديو تُثبتُ هذا. إنهم الصهاينة والأمر كله يتعلق بالمال".
اتفق معه أصدقاؤه.
مسلمون مستهدفون
أضاف مهدي أنه يوجد فيديو آخر يثبت أن محمد مراح- الذي قتل جنوداً فرنسيين مسلمين ويهوداً في تولوز في عام 2012 باسم "تنظيم القاعدة"- كان أزرق العينين "ولم يكن مسلماً على الإطلاق. إنهم يتظاهرون بأن المسلمين هم الإرهابيون، لكن المسألة لا علاقة لها بالدين. نحن المسلمون مُهانون دائماً".
أدي كامارا (25 عاماً)، الذي ينحدر من أبوين من مالي، هز رأسه موافقاً. كامارا عاطل عن العمل منذ ثلاثة أشهر وهو لا يزال يبحث عن عمل جديد، "لكني أشعر أني مستهدفٌ في باريس، ربما لأني مسلم أو لأني زنجي، فالأمر سيَّان". ثم أضاف متنهداً: "الأمور معقدة هنا في فرنسا".
بالعودة إلى باريس، يقول الحلاق جيفري كروميير (44 عاماً) أنه فقد نصف زبائنه السياح الذين قاموا بإلغاء رحلاتهم إلى فرنسا. ويشرح السيد كروميير: "سيتعافى الفرنسيون ويعودوا إلى عاداتهم اليومية. لكن السياح؟ أخشى أن جزءاً كبيراً منهم سيختفي، على الأقل خلال عُطَل عيد الميلاد والسنة الجديدة".
أما السيدة فاغنر، المغربية الأصل صاحبة الكشك، فقالت أن عملها تضرر نتيجة تراجع عدد السياح الذين لن تكون عودتهم سريعة، "لكن لنضع الأمور في نصابها: نحن أحياء".